"لو قُدّر لكل ثانية من حياتنا أن تتكرر مرات لا حصر لها، لكنّا معلّقين على الأبدية مثلما عُلّق المسيح على صليبه. هذه الفكرة فظيعة. ففي عالم العود الأبدي، كل حركة تحمل ثقل مسؤولية لا تُطاق، وهذا ما جعل نيتشه يقول: إن فكرة العود الأبدي هي الحمل الأكثر ثقلًا".
سألتني صديقتي عن ترشيحي لرواية جيدة، أعطيتها من مكتبتي "كائن لا تحتمل خفته" وقلت إنها رواية ضمن قائمتي القصيرة للأعمال التي لا أسأم من معاودة قراءتها. بعدما انتهت صديقتي من القراءة قبيل مغادرتها البلاد بأيام، أخبرتني: "اليوم أفهم لماذا تُعجبك الرواية، لأنك تُشبه فلان، أحد أبطال القصة"، ولم أعلم حتى اللحظة أن كانت تعنيها أو تقولها من باب المجاملة، أو إن قصدتها من باب المديح أو على النقيض من باب الذم والقدح في شخصي، ولم أتجرأ على سؤالها، ربما لم أحب سماع الإجابة وفضّلت الغموض باحتمالاته وإثارته.
عندما سافرتُ من مصر في تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، متجهًا إلى لبنان في خروج، على الأغلب، لن يكون له عودة قريبة، ودّعتُ مكتبتي التي جمعتها منذ الابتدائية بحزن شديد، احتوت المكتبة على تشكيلة غير متناغمة من الكتب، وأي شخص غريب قد يحتار في كينونة صاحب المكتبة.
ميلان كونديرا: "في عالم العود الأبدي، كل حركة تحمل ثقل مسؤولية لا تُطاق، وهذا ما جعل نيتشه يقول: إن فكرة العود الأبدي هي الحمل الأكثر ثقلًا"
تشكلت المكتبة منذ كنت أدّخر من مصروفي المدرسي لشراء كتيبات دينية صغيرة وشرائط كاسيت لشيوخ السلفية. خطب مؤثرة وشيوخ تنهر وتصرخ وتهدد بعذاب القبر وجحيم النار، أو تسجيلات النور الإسلامية لأناشيد بلا موسيقى، فقط الدف من أجل الإيقاع، وأحيانًا بلا دف، أو شرائط الدعاة الشباب الأكثر تساهلًا في مرحلة تالية. كتب ومجلدات لفتاوى دينية وآراء عقائدية، كتب تراثية ومعاصرة، وتفسير الشعراوي للقرآن، وكتب الأحاديث النبوية وشرحها.
تغيرت المكتبة تدريجيًا مع كل مرحلة في حياتي، وحرصت دومًا على تنقيتها في كل عام، والتخلص من الزوائد والكتب التي لم أعد بحاجة لها، أو التي أحصرها في خانة "علم لا ينفع وجهل لا يضر"، وفي كل مرة أحار في مصير الكتب التي تكوّمت في الكراتين وأرغب في التخلص منها، هل أتبرع بها إلى أشخاص ينتمون إلى مثل هذه الأفكار أو أصبح خائنًا لقناعاتي ومشاركًا في إفساد البشرية بأفكار لا أقتنع بها.
مع الوقت، ظهرت في مكتبتي مجموعات قصصية لكتّاب مصريين وعرب وأجانب، وأشعار وروايات، وحتى كتب التنمية البشرية الساذجة وروايات عبير والرجل المستحيل وما وراء الطبيعة وأغرب من الخيال، وهكذا استمرت المكتبة في التحوّل والتبدّل يومًا بعد يوم، حتى دخلها كونديرا ولم يخرج منها.
لم أستطع حمل المكتبة معي على الطائرة، كان على أن اختار، حملت معي كتابين كرفيقي رحلة، قصائد رياض الصالح الحسين في أعماله الكاملة عن دار منشورات المتوسط، ورواية كائن لا تحتمل خفته لميلان كونديرا في نسختها العربية من ترجمة ماري طوق عن المركز الثقافي العربي، تلك الرواية التي لا ممل من إعادة قراءتها، وفي كل مرة تكتشف أمرًا مثيرًا وفكرة غامضة. هناك روايات أصنفها كمراجع للإنسانية، وبالتأكيد كائن لا تحتمل خفته ضمن هذه القائمة القصيرة، عمل يشرّح الإنسان بدواخله، هذا الكائن غير المفهوم والعصي على الشرح والتفسير.
تعرفت على كونديرا للمرة الأولى من خلال رواية البطء، صغيرة الحجم عظيمة الأثر، وبعد انتهائي من القراءة تيقنت أن كونديرا سيصبح أحد كتابي المفضلين، وهو بالفعل ما حدث بعد ذلك، حزنت عند رحيله وتعجبت من نفسي، لم أعرف الرجل سوى من شخوصه وحكاياه وكلماته، كيف يمكن أن تحب رجلًا لم تقابله يومًا للدرجة التي تشعرك بالرغبة في البكاء حين رحيله، ما أبشع الخسارة!
عند رحيل أحد كتّابي المفضّلين أعاود قراءة أعمالهم، محاولة لاسترجاع الأفكار التي تأثرت بها وشكّلت جزءًا من شخصيتي، وتقديرًا لأصحاب الأعمال، وإحياءً لذكراهم. استحضرت فكرة العود الأبدي، فكرة نيتشه الفلسفية التي استند إليها كونديرا في "كائن لا تحتمل خفته" وبدأ بها فصله الافتتاحي، وأدركت توًا ما يجعل ميلان كونديرا عظيمًا أنه لن يتكرر مرة أخرى، تمامًا كفكرة العود الأبدي، لا يوجد عود أبدي لكونديرا أو لغيره من الكتّاب والروائيين والشعراء والمفكرين، لا يوجد تكرار أبدي، وهنا مكمن الخطر ومكمن التفاهة ومكمن الخلود.