مَعَان، المدينة الأردنية الجنوبية (216 كيلومترًا جنوب عمّان)، جعلها التاريخ حاضرة ومَلْقى وتاريخًا يُسرد. ولأن التاريخ أحداث، كتب المؤرخ والشاعر السوري خير الدين الزِّرِكْلي كتابًا يُصنَّف في أدب الرحلات والسيرة السياسية بعنوان "عامان في عمّان: مذكرات عامين في عاصمة شرق الأردن 1921 – 1923".
يتضمن كتاب "عامان في عمّان" وصفًا للأحداث والوقائع السياسية التي رافقت تشكيل إمارة شرق الأردن
ومع أن الكتاب يحمل اسم عمّان، إلا أن ذلك لم يمنع الكاتب من ذكر ووصف الأحداث السياسية وما تبصره العين من وقائع رافقت تشكيل إمارة شرق الأردن. وما نقدّمه هنا هو ما أبصره الزِّرِكْلي من وقائع سياسية ومشاهد ديموغرافية لمدينة مَعَان في عام 1920.
بعد سقوط دمشق بيد الفرنسيين، تحرك الأمير عبد الله نحو الشام، وكان هذا التحرك يحمل أبعادًا سياسية وينذر بتغييرات ستحدث في المنطقة. حلَّ الأمير في مَعَان، وكانت هذه المدينة مُعيْنَة لخط الحجار، حيث احتوت على سكة حديد، وكانت معقلًا للزوار والحجاج يتزودون بها مما طاب من مَريْحةٍ وسكينة.
في أيام وصول الأمير إلى مَعَان كان حدث عظيم يحدث في حوران، حيث قتل أهل حوران اثنين من وزراء حكومة الشام هم: عبد الرحمن بيك اليوسف، وعلاء الدين بيك الدروبي. وهنا وجب أن تتشكل من مَعَان قوة بعتاد عسكري وسياسي.
لعل قوة الاحتلال الفرنسي في سوريا كان قوامها الفن والنظام. ولذلك كانت الرسالة من أحرار سوريا إلى الأمير عبد الله أن تكون ثورته عسكرية منظمة، أي في نظام متكامل من بناء الجيش النظامي الذي يحرر ليؤسس حضارة إنسانية. وفي هذا ذكر الزِّرِكْلي تقديم الشيخ عودة أبو تايه، أحد وجهاء قبيلة الحويطات، ما يقرب مبلغ 3 آلاف جنيه. وكان رد الأمير وقتها: "إنّني أقبل يا شيخ عودة أن أتناول منك هذا المال، وأشكرك على شهامتك، وإنما أحب أن يكون هذا المال قرضًا عندي أرده إليك في سوريا، فأجاب الشيخ عودة: يا سيدي لحم اكتافنا من خيركم فالمال منكم ولكم، والتوفيق على الله".
في مَعَان، وفق ما أورده الزِّرِكْلي، تأسست جريدة يومية اسمها "الحق يعلو" التي قال في وصفها: "وحمل إلي البريد من مَعَان عددًا من جريدة صغيرة كانت تُطبع على البالوظة في خيام الأمير اسمها "الحق يعلو"، وقد كتبت تحت الاسم: جريدة عربية ثورية تصدر مرة كل أسبوع". وفي هذه الجريدة، يذكر الزِّرِكْلي بأن الأمير نشر قصيدة متأففًا من الإقامة في مَعَان، إذ يقول في مطلعها: "ما لي وما لصياح السِّلك في بلدٍ/ لا السّهلُ بشبههُ كلّا ولا الجبلُ"، ويقصد بالسلك "سلك التلغراف".
بدا واضحًا على الأمير التأفف من طول الإقامة في مَعَان، لأنّ طول الإقامة يؤذن بتأخير تحرير سوريا من المحتل. أما السهل والجبل اللذان يبحث عنهما الأمير، فليستا في معان ذات البيئة الصحراوية وفق ما يشاهده من خيمته.
لم يطل هذا التأفف، وما هي إلا أيام حتى جاء الوفد السوري، ومنهم مظهر رسلان أحد قيادات الحركة الوطنية العربيّة، فعرف الأمير أن القوم راضون عنه فتحرك إلى عمّان، وغادر مَعَان بعد أن شكلت هذه المدينة معقلا ثوريّا وموردًا فكريًا، فمنها تنعّم الأمير بالمال ليؤسس جيش التحرير، وفيها انطلقت كلمات الحرية والتحرير التي ضاعت، ذلك أن السياسة الإنكليزية تدخّلت لتؤكّد تقسيمات سايكس – بيكو في أعماق الأمة العربية، وليبقى المحتل جاثمًا لسنوات طوال.
بعد مَعَان السياسة، ينقلنا الزِّرِكْلي إلى مَعَان الديموغرافيا والطبيعة تحت عنوان: للتاريخ، شيء عن مَعَان-الحجازية والشامية- وعشائرهما. وفي هذا الفصل، يمتّعنا الزِّرِكْلي في وصف مَعَان قائلَا: "يكتنفها من جهتيهما الشرقية والغربية وادٍ يسيلُ فيه ماء الشّتاء، وعلى أطراف هذا الوادي بساتين مَعَان ومزارعها التي تمتد مسافة نصف ساعة، وأبنية القرية كلها من اللبِن.. ولأكثر أبنيتها الحديثة حدائق صغيرة يسمونها قصائل، والواحدة قصيلة، ماؤها عذب وهواؤها نقي جاف وفيها عين جارية تسمى عين سويلم".
يصف الزّرِكْلي في كتابه ما شاهده من وقائع سياسية ومشاهد ديموغرافية لمدينة مَعَان عام 1920
وفي مثل هذا الوصف الجميل، يُكثر الزّرِكْلي حديثه عن مَعَان الشامية ومعان الحجازية ووادي المغارة، ويذكر لنا كذلك العشائر التي تسكن في مَعَان، والقبائل التي تحيط فيها. ولا يكتفي بذكر المدينة، بل ينقلنا للحديث عن النواحي التي تحيط بمعان، فنجده يذكر الشوبك ويصف قلعتها وبئرها، ويذكر قرية نجل وآثار قصر الدوسق، ثم ينتقل للحديث عن وادي موسى الذي يحتوي على مدينة البترا الأثرية.
ورغم أن الزركلي لم يزر قرية وادي موسى، إلا أنه ينقل لنا ما سمعه عن الآثار الموجودة فيها: "وقصرها الصخري الذي يسمونه اليوم سراي فرعون، وما هنالك من تماثيل أكثرها منقوش على الصخور، وأن بينها تمثال فتاة تحمل في يدها وردة، إلى غير ذلك مما تركه الأولون عبرة للآخرين".
وبين عبرة الآخرين وتركة الأولين نردد ما قاله خير الدين الزِّرِكلي: "يا قلبُ أوجَعَك الحديثُ مُعادَا/ فاخفق كما شاء الأسَى وأرادَا".