التمرد فعل قديم قدم البشرية ذاتها؛ تمرد آدم فاقترب من الشجرة المحرمة ليهبط إلى الأرض. ومنذ ذلك الزمان السحيق، استمر تمرد الإنسان إلى اليوم وحتى نهاية الوجود، فللتمرد ألف روايةٍ لم تروَ بعد.
الطفولة القاسية التي عاشها نجيب سرور، كانت دافعه لأن يترجم ما عايشه من ظلم، إلى فن امتاز بالغضب والسخرية اللاذعة
بدأ التمرد بمخالفة التعاليم الإلهية، ثم تحول إلى عين الطاعة الربانية؛ كل الأنبياء والرسل تمردوا على واقعهم، كذلك سار الثوار على دروب التمرد، ضحوا بالكثير، حتى صارت قصصهم ملهمة للأجيال التي تلتهم. نماذج ثائرة وأساطير متمردة، من بينهم نموذج فريد اسمه نجيب سرور.
اقرأ/ي أيضًا: 15 عامًا لاهثًا وراء ظل محمد شكري
46 عامًا كانت كافية جدًا لصناعة أسطورة نجيب سرور، الشاعر والكاتب، الذي ولد في الأول من حزيران/يونيو 1932 في قرية إخطاب التابعة لمركز أجا بمحافظة الدقهلية في دلتا مصر.
أرض العبيد والأسياد
في قريته الصغيرة، لم يكن نجيب ابنًا لأحد الإقطاعيين الذين يمتلكون آلاف الأفدنة، يعمل فيها الفلاحون بقليل الأجرة أو حتى بالسخرة، وإنما كان ابنًا لأحد هؤلاء الفلاحين، ويعمل مع والده الساعات الطوال، ليوفروا بالكاد ما يكفي قوت يومهم.
طفولة قاسية عاشها نجيب سرور، لكنها كانت دافعه لأن يترجم ما رأى من ظلم إلى فن، فآمن بأهمية المسرح الذي ترك كلية الحقوق ذات الشأن الرفيع آنذاك، من أجله، متجهًا لمعهد الفنون المسرحية.
من رفض الظلم إلى أحضان الدولة
في العام 1956 تخرج سرور من معهد الفنون المسرحية. وفي ذات العام كتب قصيدته الشهيرة "الحذاء"، يتحدث فيها عن تعرض والده للضرب على يد عمدة قريته "بأمر الإله"! ثم اتجه سرور إلى كتابة الدراسات النقدية، ومن أشهرها "رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ" التي نشرت عام 1959.
سافر سرور في بعثة حكومية للاتحاد السوفيتي لدراسة الإخراج المسرحي في عام 1958. وهناك أفصح عن ميوله الماركسية، وانتمائه للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) الشيوعية، لتدفعه ميوله الماركسية إلى الحياة بين نارين: نار طلاب البعثات الذين كتبوا التقارير ضده وبعثوها للسلطات المصرية، ونار الشيوعيين المصريين والعرب الذين اتهموه بالارتماء في أحضان الدولة لسفره في إحدى بعثاتها.
تمرد سرور على كل ذلك، وألقى الخطب الرنانة، وشارك في الفعاليات المناهضة للنظام الحاكم في مصر، ما دفعه إلى نيل ثقة الشيوعيين مرة أخرى. لكن في المقابل ازداد الوضع سوءًا عليه مع نظام عبد الناصر الذي لم يكتفِ بسحب منحة الابتعاث، بل سحب الجنسية المصرية منه!
انتماء سرور للشيوعية لم يكن استراحة محارب، فقد ثارت خلافات عديدة بينه وبين الشيوعيين، ما دفعه لمغادرة روسيا ومنها إلى المجر، لينتهي به المطاف عام 1964 في البلد التي لم يكن مرحبًا بوجوده بها: مصر.
في ذلك الوقت كانت معتقلات نظام عبدالناصر المدارة بواسطة صلاح نصر في أوج قسوتها، وقد نال سرور نصيبًا لا بأس به من الاعتقال والتعذيب، فخرج من المعتقل ليصب غضبه على الجلاد وعلى المثقفين وعلى كل شيء، بما في ذلك نفسه.
حكماء ريش وحكماء الدولة
"يا رواد المقهى الموبوء/ ماخص المقهى الداء..
لو كان بيدى الأمر/ لشنقت بأعمدة التليفونات..
رهط الماسون الملعون/ أو علقت الأبله منكم..
مثل الثور إلى الطاحون.. حتى يفهم!"
بهذه الأبيات، اختتم سرور قصيدته الأشهر بين المثقفين ومن يسميهم "الأدعياء"، قصيدة "بروتوكولات حكماء ريش"، منتقدًا فيها الأوساط المثقفة المصرية نقدًا لاذعًا، انطلاقًا من مقهى ريش الشهير في منطقة وسط البلد بالقاهرة، وكان ملتقى للمثقفين والفنانين والكتاب آنذاك، وإلى الآن بدرجة ما.
ومن 1964 وحتى 1978، أنتج سرور الكثير من الأشعار بالفصحى والعامية، وكذا المسرحيات، من بين أبرزها مسرحية "يا بهية وخبريني" التي كتبها عام 1967، ومسرحية "ميرامار" المقتبسة عن الرواية الشهيرة للأديب نجيب محفوظ في عام 1968، ومسرحية "الكلمات المتقاطعة" في عام 1969، وغيرها من الأعمال التي جاءت غنية بالنقد الممزوج بسخرية لاذعة تميز بها سرور.
من شهدي عطية إلى سيد قطب
"الوعد على الكل لا شيوعي ولا إخوان..
واللي قتل شهدي جلادك يا سيد قطب
الموت خانات والخانات من خبثهم ألوان..
جزارة واحنا غنم متعلقين من الكعب"
كان الوضع شبه مستقر بين نجيب سرور والسلطات المصرية، إلى أن حدث ما لا تحمد عقباه عام 1971، حينما عرض مسرحيته "الذباب الأزرق"، والتي أشار فيها إلى مجازر أيلول الأسود بحق الفلسطينيين في الأردن، ما دفع السلطات الأردنية للتدخل لمنع عرضها، فمنعتها الرقابة المصرية بالفعل.
عندما وصل غضب نجيب سرور مداه، رفع رايات التمرد مرة أخرى، فكتب قصيدته الشهيرة المعروفة باسم "أمّيات نجيب سرور". ذاع صيت القصيدة التي كانت ذروة الغضب، باحتوائها شتائم دارجة لعن بها سرور كل شيء في المجال العام المصري. لم تكن القصيدة أفضل أعمال سرور فنيًا، لكنها أشهرها غضبًا، خاصة بعد أن نشر نجله تسجيلًا صوتيًا للقصيدة بصوت والده.
المتمردون يموتون وقوفًا
خلال السبعينات، استمرت رحلة نجيب سرور مع المعاناة حتى وفاته، فقد فصل من عمله محاضرًا في معهد الفنون المسرحية، واستحكم الفقر به، حتى يروى أنه تشرد في الشارع فترة.
وخلال تلك الفترة أنتج المزيد من الأعمال، ففي عام 1975 صدرت له "رباعيات نجيب سرور"، وفي عام 1978 قبيل وفاته، صدر له ديوان "فارس آخر زمن" وديوان "الطوفان الكبير".
ذاعت شهرة قصيدة "أميات نجيب سرور"، إذ مثلت ذروة غضبه، باحتوائها شتائم دارجة، لعن بها سرور كل شيء
طارد نظام الرئيس محمد أنور السادات، نجيب سرور حتى الرمق الأخير، واتهم بالجنون حتى أودع قسرًا المصحات العقلية، وكان آخرها في مدينة دمنهور. وللمفارقة، فنفسه سرور المتهم بالجنون، اشتهر بـ"شاعر العقل".
ترجل سرور عن فرس حياته المتمردة في 24 تشرين الأول/أكتوبر 1978، بسيرةٍ تذكر بتفرد الذي قال: "منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه.. ويقولوا مرة الحقيقة...".
اقرأ/ي أيضًا:
غِواية الشيخ محمد عمران.. هكذا قرأ القرآن بمقام "إنما للصبر حدود"