أجل، لم يعد الموت همًا وجوديًا يستدعي التأمل ويحتمل العناد الداخلي. لقد صار احتمالًا مطروحًا بغزارة، شأنًا دنيويًا يحتاج حسابات عملية لا أوهام فيها. فقد عرضيته ليغدو ضرورة يومية. فقد وقاره وراح يمشي في الشوارع بميوعة مراهق دون أن يلتفت إليه أحد. لم يعد استثنائيًا وبالتالي لم يعد مدهشًا. عاديته حطمت كل عزاء كان لدينا، ودحضت ذلك الحافز البطولي وذلك الميل المأساوي المشرف، وغلفت استجاباتنا بقدر كبير من اللامبالاة الصلدة الكتيمة.
لم يعد الموت همًا وجوديًا يستدعي التأمل ويحتمل العناد الداخلي. لقد صار احتمالًا مطروحًا بغزارة، شأنًا دنيويًا يحتاج حسابات عملية لا أوهام فيها
ومع ذلك، مع كل ذلك، يحدث أحيانًا أن نصحو على وجع لا يحتمل إثر ضربة مفاجئة من مخلب الموت، فنكتشف أن التخدير ليس كاملًا بعد، وأن غرغرينا البلادة لم تجهز علينا تمامًا.
لا نزال نتألم! يا للتعاسة فنحن، إذًا، لا نزال كائنات هشة موعودة بمزيد من العذاب. لا نزال نتألم! يا للسعادة فنحن، إذًا، لا نزال بشرًا.
مؤلم جدًا كان موت الصحافي والروائي السوري غازي حسين العلي (1958 - 2022)، ذلك أن الرجل كان أبعد ما يكون عن الاستعداد للموت، لقد كان مصرًا على أن لدية "أميالًا ليقطعها في الغابة قبل أن يعود إلى البيت ليخلد للنوم"، وكان لا يزال متلذذًا بعمل النهار في اللحظة التي باغتته فيها الشمس بغروب خاطف.
لكن أكثر ما يؤلم أن قصة موته قد انطوت على خديعة. فقد ظل لأيام طويلة رهين بيته، مختبئًا من برد شتاء لئيم طعّان، وفقط يوم الأربعاء الماضي قرر أن يخرج بحذر مستكشفًا. مشى وسط هواء رفيق وتحت شمس دافئة حنونة، فعاد إلى البيت مسرعًا بفطور الصباح، وقال لجيرانه وزوجته أنه راجع حالًا إلى الشارع، فالحياة في الخارج تبعث بنداء لا يقاوم. أنهى فطوره على عجل وهم بالخروج، غير أن طعمًا كريهًا مشؤومًا داهم حلقه، كان دمًا سرعان ما راح يتدفق من أنفه ومن فمه، ولم يُتح له أن يفهم، ولا حتى أن يسأل، إذ كان قلبه قد توقف عن الخفقان، مرة وإلى الأبد.
كان نداء مضللًا، سرابًا توهمته روح تواقة للعيش، أو ربما هو شرك أتقن صنعه ملاك الموت نفسه.
كان غازي حكاء بارعًا، ولطالما أمتع جلساتنا بحكايات مرحة ونوادر ظريفة، لا سيما أنه امتلك موهبة تقليد الأصوات وتعابير الوجوه وحركات الأيدي، وكنا نناكفه بالقول أنه قد ضل طريقه إلى الصحافة والأدب، وأنه كان ينبغي أن يغدو ممثلًا كوميديًا.
وأكثر ما كان يغريه بـ"التنكيت" هي كليشات "المثقفين" ورطانتهم العويصة وهيئاتهم المتعالية، ولكن حسه العالي بالنزاهة جعله لا يعفي نفسه من السخرية، إذ كثيرًا ما كان يروي لنا، ضاحكًا، سيرة بداياته عندما كان شابًا صغيرًا.. مشيته المتبخترة إثر أول مقالة منشورة، وجلسته على المقهى ليدخن على طريقة كبار الكتاب بعد أول قصة.
كان غازي حسين العلي دؤوبًا في كل شيء، في عمله ومشاريعه وعلاقاته الاجتماعية، ولقد عالج معضلة الوجود بأن اقتطع لنفسه حيزًا ثابر على ترتيبه وتأثيثه، حاملًا قلمًا ومسطرة، ومخضعًا كل شيء للتخطيط
اعتاد أن يحتمي من قسوة الحياة بالأصدقاء، فأصر على أن يحيط نفسه بعدد وافر منهم، وكان يرعى مودتهم باهتمام مثابر سخي. وزلات بعضهم، نكرانهم، جحودهم، إهمالهم.. كانت بالنسبة إليه شؤونًا طبيعية تمليها الطبيعة البشرية ولا ترقى لأن تُسقط عنهم صفة الصداقة.
كان غازي دؤوبًا في كل شيء، في عمله ومشاريعه وعلاقاته الاجتماعية، ولقد عالج معضلة الوجود بأن اقتطع لنفسه حيزًا ثابر على ترتيبه وتأثيثه، حاملًا قلمًا ومسطرة، ومخضعًا كل شيء للتخطيط: كتبه ومقالاته ومستقبل أولاده. وكان رهان دائم بيننا، هو من جهة، ونحن أصدقاؤه من جهة أخرى. كنا نواظب على تذكيره بأن الحياة عبثية وعشوائية، لا تخضع لتخطيط ولا تنصاع لقياس، وكان هو يصر على اعتبار كلامنا مجرد فذلكات منقولة عن كتب بائسة، تغطية على عدم الرغبة في الإنجاز، تمويه على ضعف الهمة.. وجاء وقت بدا أنه انتصر في رهانه: أنجز عددًا من الروايات، واحدة منها "مرسيدس سوداء لا تخطئها عين" فازت بجائزة أدبية مرموقة (كتارا)، وحظي ببيت سعيد مستقر وأبناء ناجحين.. وفيما كان يراكم في أدراجه مزيدًا من المشاريع المستقبلية المتفائلة، فجأة جاء القدر الطائش ليقلب نتيجة الرهان ويجعلنا نحن الفائزين. ويا له من فوز فادح بطعم العلقم.