منذ 6 سنوات تقريبًا، كتبت مقالًا بعنوان هل يصلح خالد علي رئيسًا للجمهورية؟ ذلك في خضم الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المصرية بداية عام 2018، انسحب خالد علي في النهاية وتراجع عن قرار ترشحه، بسبب التضييق الأمني على المعارضين والمرشحين الآخرين أو اعتقالهم، كما حدث مع الفريق سامي عنان، رئيس الأركان الأسبق، وعبد المنعم أبو الفتوح، رئيس حزب مصر القوية، الذي ما زال معتقلًا حتى اليوم.
بعد أسبوعين من كتابتي لهذا المقال، اعتقلتني السلطات المصرية لمدة 3 سنوات ونصف، ليس بسبب هذا المقال تحديدًا، إنما لأسباب أخرى متعلقة بالعمل الصحفي ومراقبة ومتابعة وتغطية العملية الانتخابية.
لم أباشر حقوقي السياسية كحقي في التصويت والانتخاب منذ أحداث 30 حزيران/ يونيو 2013، ففي أثناء انتخابات الرئاسة عام 2014، كنت جنديًا في القوات المسلحة أؤدي خدمتي العسكرية الإجبارية، وفي أثناء انتخابات الرئاسة 2018 واستفتاء التعديلات الدستورية 2019، كنت محبوسًا احتياطيًا على ذمة قضية سياسية، اليوم أعود لأطرح سؤالًا شبيهًا، من منفاي، ولدي الحق في الانتخاب، هل يصلح أحمد الطنطاوي رئيسًا للجمهورية؟
لا أحد من المحسوبين على المعارضة المصرية، باستثناء أحمد الطنطاوي، تعامل مع العملية الانتخابية كما يجب، أو حضّر لها جيدًا ومبكّرًا، وأخذها على محمل الجد
توجد متشابهات عديدة بين ما يخوضه الطنطاوي الآن وما حاول خالد علي أن يخوضه في 2018، وكذلك متباينات عديدة، فالظرف الزمني نفسه يفرض شروطًا مختلفة، في ظل متغيرات متسارعة وخطيرة في المشهد السياسي في مصر، وفي ظل وجود سلطة تآكلت شعبيتها وشرعيتها، وتحاول الصمود في وجه غضب شعبي مكتوم نابع من الظرف السياسي المأزوم ومن الوضع الاقتصادي المستمر في التدهور والانهيار، دون وضوح خطة للإنقاذ أو أمل في غد أفضل، فضلًا عن خسائر مستمرة على الصعيدين الإقليمي والدولي من الحلفاء والداعمين السابقين.
العملية السياسية هي محاولات مستمرة، ولن تتبرع السلطة بعطايا ونفحات مجانية إلى المعارضة، ما لم تخض المعارضة معركة تراكمية يمكن البناء عليها، وكسب أرضية جديدة في الصراع، ولن تحدث المكاسب وإضعاف السلطة وإنهاكها إلا بالاشتباك معها، وفي الوضع الراهن حيث تبسط المظلة الأمنية طغيانها، لا شك ستقع بعض الخسائر والتضحيات، ولكن إلى أي مدى تستحق هذه التضحيات؟ وإلى أي مدى يمكن للسلطة أن تتمادى في طغيانها؟
الاختيار في الأخير يقع على عاتق الفرد المواطن الذي يقرر إما خوض المعركة وتحمل تبعاتها، وإما البُعد عن العملية برمتها استسلامًا أو إيثارًا للسلامة، أو عن عدم قناعة بفعالية وتأثير هذه المحاولة.
باستثناء أحمد الطنطاوي، لا أحد من المحسوبين على المعارضة المصرية تعامل مع العملية الانتخابية كما يجب، ولا أحد حضّر لها جيدًا ومبكّرًا وأخذها على محمل الجد، للدرجة التي جعلت ائتلاف "التيار الحُر" الذي تشكّل من مجموعة أحزاب ليبرالية، يُعلن تعليق جميع مشاركاته السياسية بشكل مؤقت، عطفًا على الحكم الصادر بالسجن لستة أشهر ضد رئيس مجلس الأمناء، السيد هشام قاسم، ويقرر عدم الدفع بمرشح في الانتخابات الرئاسية، بعد أن سُجن أحد المرشحين المحتملين، في حال توفر الضمانات الانتخابية. ثم ذُيّل بيان التيار الحُر بملحوظة نسفته من أساسه، جعلت من القرار غير ملزمًا لأعضائه من الأحزاب، باعتبار أن لوائح الأحزاب الداخلية تظل هي المرجعية النهائية لها.
فيدفع حزبان من أحزاب التيار الحُر بمرشحيهما في الانتخابات، الأستاذ فريد زهران، رئيس حزب المصري الديمقراطي، والأستاذة جميلة إسماعيل، رئيسة حزب الدستور، ما يحيلنا مجددًا إلى التساؤل عن جدوى العمل الحزبي والتنظيمي والائتلافات إذا لم يلتزم الأعضاء بقراراتها.
تمكن الطنطاوي عبّر جديته وتراكمية عمله السياسي في السنين الأخيرة، من "تحويل مسرحية الانتخابات الهزلية إلى محاولة جادة لفتح ثغرة في حاجز الخوف وبناء معارضة جادة قادرة على القيام بدورها بين الجماهير"، حسب تعبير البيان التضامني الصادر عن حركة الاشتراكيون الثوريون، امتلك الطنطاوي شجاعة نزول الشارع والتجول بين الجماهير والحشود، في مشهد نراه للمرة الأولى منذ 10 سنوات على الأقل، وانعكست تلك الشجاعة على مؤيديه فقابلوه بشجاعة أخرى مبهرة عبّروا عنها في مكوثهم بالساعات والأيام أمام مقرات الشهر العقاري من أجل تحرير التوكيلات، رغم المخاطر الأمنية، وهتفوا بشعار ثورة يناير مرة أخرى "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".
هذا الحراك والاشتباك مع الشأن السياسي في غاية الأهمية، إذا ما تم استغلاله بشكل جيد والبناء عليه مستقبلًا من أجل مشروع سياسي كامل، لحظات قليلة التي رأينا فيها تحركًا شعبيًا محدودًا خلال السنوات العشر الأخيرة، الاعتراضات على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية 2016، والتي أسفرت عن تنازل مصر عن جزيرتين استراتيجيتين، هما تيران وصنافير، ثم الحراك المحدود المرافق لحملة المرشح الرئاسي السابق خالد علي 2018، والذي وُأد سريعًا بانسحاب خالد علي من المشهد كله، ثم تظاهرات أيلول/ سبتمبر 2019، التي دعا لها من خارج مصر المقاول محمد علي، وتسببت في القبض على الآلاف وتشديد القبضة الأمنية.
ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية، يبشر بوجود أمل يلوح في الأفق، هكذا تبنت حملة الطنطاوي شعارها وتداوله الناس "يحيا الأمل"، الأحداث المتسارعة في الأيام الأخيرة تعطي انطباعًا أن قطاع عريض من الشعب المصري لم يستسلم للمصير المفروض وما زال لديه القدرة على المعافرة رغم كل القيود والتحديات والظروف المعيشية القاسية.
تحاول السلطة بكل الأشكال منع أحمد الطنطاوي من الوصول إلى عتبة الانتخابات كمرشح رسمي، وتسعى إلى حصره في خانة المرشح "المحتمل"
تحاول السلطة بكل الأشكال منع أحمد الطنطاوي من الوصول إلى عتبة الانتخابات كمرشح رسمي، وتسعى إلى حصره في خانة المرشح "المحتمل"، بدأ هذا الأمر مبكرًا في أيار/ مايو الماضي، باعتقال أفراد من عائلته وأصدقائه إبان إعلان عودته إلى مصر، ثم ازداد التضييق الأمني في الأيام المنصرمة باعتقال أكثر من 80 فرد من حملته الانتخابية، إلى جانب استدعاءات أمنية من جهاز الأمن الوطني لمئات آخرين في مختلف محافظات الجمهورية، هدفت السلطة إلى ترهيب وردع المتطوعين والمؤيدين ممن تسول لهم أنفسهم بالاقتراب من الطنطاوي.
ثم بشكل مفاجئ، أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات، عن جدول زمني مضغوط وتعجيزي، بحيث يصبح من شبه المستحيل أن تقوم حملة الطنطاوي بجمع التوكيلات الشعبية المطلوبة لدخول السبق الانتخابي، فعلي كل من يرغب في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية إما أن يتحصل على تزكية من 20 نائب برلماني، وإما أن يتمكن من جمع 25 ألف توكيلًا شعبيًا من المواطنين، موزعين على 15 محافظة، بحد أدنى 1000 توكيل من كل محافظة.
وهو عدد بسيط يمكن جمعه في يوم واحد، في وجود مئات الآلاف من المؤيدين للطنطاوي، وعشرات الآلاف المنضمين والمتطوعين بالفعل في حملته الانتخابية، إذا توفر مبدأ الحياد لدى مؤسسات الدولة، لكن لا يُخفى على أحد التعنت الإداري في مقرات الشهر العقاري من أجل تحرير التوكيلات، فمؤيدو الطنطاوي يذهبون بالمئات كل يوم أمام مقرات الشهر العقاري بالمحافظات ولا يعودون إلا ببضع توكيلات، ورغم ذلك هناك إصرار ملهم على "الأمل"، رغم كل المخاطر والتهديدات.
من السذاجة القول بأن النظام سيسمح للطنطاوي بخوض الانتخابات، على الأرجح سيُمنع من إتمام جمع توكيلاته الشعبية، في الوقت الذي استكمل المرشحون الآخرون التزكية من نواب البرلمان بأوامر وتوجيهات أمنية، مثل عبد السند يمامة، رئيس حزب الوفد، وحازم عمر، رئيس حزب الشعب الجمهوري، لاستكمال مشهد المسرحية التنافسية التي تليق بدولة مدنية ديمقراطية حديثة.
أعتقد أن الإجابة قد وضحت، الغالبية يصلحون لتولي منصب الرئاسة، إذا ما التزموا بالقانون والدستور، وتقيدوا بأدوارهم التنفيذية، وحافظوا على مبدأ الفصل بين السلطات، ولم يتدخلوا في صلاحيات أجهزة ومؤسسات الدولة الأخرى، سيتحول الرئيس إلى موظف عمومي يؤدي دوره كأي مواطن آخر، لا حاجة لكونه بطلًا أو منقذًا أو أبًا حنونًا، وهذا تحديدًا ما يروّج له الطنطاوي، أي العودة لإرساء دولة القانون التي تنزع عن الرئيس قدسيته، وتلبسه ثوب المسؤولية، وتراقبه وتحاسبه.