عام 1944 وقف الجنرال جون سميث بايتون، قائد الجيش السابع الأمريكي في البحر المتوسط، يقول: "يا رجال، إن هذه المادة التي تطرحها بعض المصادر حول رغبة أمريكا في الخروج من الحرب، وعدم الرغبة في القتال، إنما هي إلا شظية من هراء. إن الأمريكيين تقليديًا يحبون أن يحاربوا، فكل الأمريكيين الحقيقيين يعشقون لسعة واشتباك المعركة".
بعد أن كانت بلدًا هادئًا بدرجة ما، تحولت سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، وتحولت معها عقيدتها العسكرية، مع الحرب العالمية الثانية
بعد عقود من هذا المشهد، وفي مشهد جديد يتسيده الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، الخميس الماضي، وبُعيد اجتماع مع قادة الجيش الأمريكي لمناقشة ملفي إيران وكوريا الشمالية، وقف بين القادة العسكريين لالتقاط صور من كاميرات الصحفيين، قائلًا لهم: "هل تعرفون يا قوم ماذا يعني هذا؟ ربما يكون هذا هدوء ما قبل العاصفة". فأي عاصفة تلك التي كان يقصدها رجل الأعمال بدرجة رئيس؟
السياسة العسكرية الأمريكية.. نقاط تحول
سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ نشأتها الأولى، إلى إبقاء سلطة القيادة التنفيذية (الرئيس) تحت السيطرة، من خلال الفصل بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وعلى رأسها المحكمة العليا والمحاكم الفيدرالية. وفي هذا الإطار، كان توجيه أول رئيس للولايات المتحدة، جورج واشنطن، للأجيال التالية، أن تصاعد البنى العسكرية للجمهورية، يُعد أمرًا مناقضًا للحريات. ورغم ما تلاه من نصائح المؤسسين الأوائل، فإن انغماس العقيدة الأمريكية في الحرب، حقق أسوأ مخاوف الأباء المؤسسين.
اقرأ/ي أيضًا: جذور السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.. الخليج وإيران نموذجًا
بعد أن كانت بلدًا هادئًا بدرجة ما، تحولت سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، وتحولت معها عقيدتها العسكرية، مع الحرب العالمية الثانية واستخدامها للسلاح النووي. بعدها كان العالم كله تقريبًا منهارًا. القوى العظمى في أوروبا تعرف أزمات ما بعد الحرب، وعلى رأسها أزمة اقتصادية طاحنة. كانت الفرصة سانحة للولايات المتحدة لبسط نفوذها عالميًا. وعليه ظهرت ما عُرفت بـ"عقيدة ترومان" نسبة للرئيس الأمريكي آنذاك هنري ترومان، ومع عقيدته تغير وجه الولايات المتحدة بشكل كبير، وتغير معها وجه العالم.
أصبحت الولايات المتحدة في مكانة تسمح لها بتسيد المشهد العالمي من منطلق تبشيري، ظهر جليًا في تصدير مفهوم التنمية وتقسيم العالم إلى دول متقدمة ودول نامية. وتحت شعارات الحرية والحلم الأمريكي، بدأت الولايات المتحدة في التمدد. حرب فيتنام هي بمثابة امتداد تقليدي لهذا الخطاب الذي تبنته الولايات المتحدة، وانعكس في عقيدتها العسكرية.
ثم جاءت هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 في عهد جورج بوش الابن، أكثر الرؤساء دفعًا بالسياسات الأمريكية نحو التهور، وهذا ما حدث في غزو أفغانستان، ثم غزو العراق الذي كان علامة فارقة في مسار العقيدة العسكرية للولايات المتحدة. وتذكر التقارير كيف حاول بوش الابن بكل حماس الدفاع عن قرار اجتياح العراق، استنادًا إلى تقرير رئيس مفتشي الأمم المتحدة آنذاك، هانز بليكس، منتقيًا أجزاء من التقرير ومتجاهلًا تقريرين آخرين من بليكس نفسه، قبل ثلاثة أسابيع من قصف بغداد، يؤكد فيهما على تعاون العراق، وأنه أجرى 400 تفتيش في أكثر من ثلاثة آلاف موقع، ودون إنذار مسبق، ولم يجد المفتشون أيًا من أسلحة الدمار الشامل المزعومة.
بمرور الوقت، وبعد أن انفجرت مأساة الحرب في العراق، لدرجة أن ريكاردو سانشيز القائد الأعلى لجيش الولايات المتحدة في العراق، وصفها بـ"الكابوس الذي لا يُدرك البصر له نهاية"؛ بدأت تتصاعد الأصوات الداعية إلى فتح التحقيقات بشأن المزاعم المضللة التي أدت إلى الحرب على العراق، وحامت الشبهات حول نائب الرئيس الأمريكي وقتها ديك تشيني، ومن ثم أصحاب المصالح النفطية من عائلة جورج بوش والمقربين منه، إلى أن استقر الأمر على "المحافظين الجدد" من خلال مؤسسة "مشروع القرن الأمريكي - PNAC" الذين بدؤوا لعبتهم السياسية منذ عام 1998، حين أرسلوا خطابًا مفتوحًا موجهًا إلى الرئيس بيل كلينتون يحذرونه فيه من امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل، ويطالبونه بإجراء ضربة استباقية ضده.
جورج بوش هو أكثر الرؤساء دفعًا بسياسات بلاده للتهور، اتضح ذلك في غزو العراق إذ كان علامة فارقة في مسار السياسة العسكرية لأمريكا
تجاهل كلينتون التقرير، لكن عندما وصل لجورج بوش، تحول إلى ما يُمكن تسميته بالوثيقة الرسمية للسياسة العسكرية الأمريكية حيث يكون هناك "عالم تتسيده دولة وحيدة فائقة القوة".
الطريق إلى فارس
رغم أن بعضًا من الصحفيين قللوا من أهمية اللهجة الحادة التي تحدث بها ترامب أمام الأمم المتحدة الشهر الماضي، حين وصف إيران بـ"الدولة المارقة"، أمام أكثر من 130 ممثلًا من دول العالم، إلا هناك آخرين مثل ماكيا فريمان في مقالها على "غلوبال ريسيرش"، اعتبروا أن ملف الحرب على إيران مطروح منذ زمن بعيد، وأن وجود ترامب في الحكم يسرع إيقاع الحرب لا أكثر.
اقرأ/ي أيضًا: كيف استفادت الأسواق العالمية من الحروب في منطقة الشرق الأوسط؟
رصدت ماكيا فريما ، في مقالها الذي نشر في شباط/ فبراير الماضي، 11 علامة على نية الحرب على إيران، كان أبرزها ما جاء في ورقة بحثية عمل عليها معهد بروكينغز عام 2009 ، تقول فيها، إن "الخيارات الاستراتيجية تجاه إيران تقضي بأن تدعو الولايات المتحدة إلى اتفاق مع إيران، ثم تتراجع أمريكا عن الصفقة، بحجة خرق إيراني ما، ما يجعل الإيرانيين يبدون وكأنهم يرفضون شيئًا معقولًا جدًا، ثم تتحين الفرصة لمهاجمة إيران بدعم من المجتمع الدولي"، مُضيفةً: "وكانت إدارة أوباما قد فوتت على إدارة ترامب الجديدة هذه الخطوة، تحديدًا بعد الاتفاق النووي الذي أبرمته مع الإدارة الإيرانية بقيادة حسن روحاني عام 2015، بل على العكس، بدا التراجع عن الاتفاق في عهد ترامب، وهو أمر مستهجن من قبل الاتحاد الأوروبي الذي كان أحد أطراف الاتفاق".
أحد الأسباب الأخرى لاحتمالية التخطيط لحرب ضد إيران، هو تخلي الأخيرة عن الدولار في معاملاتها النفطية، ويأتي ذلك في إطار اتفاقية بين إيران وموسكو والصين لإنهاء هيمنة البترودولار، وهو ما يعتبر تهديدًا للولايات المتحدة بشكل غير مباشر، وحافزًا لدول أخرى سوى إيران لتحذوا حذوها.
أمر آخر، وهو أن مايكل فلين الذي كان مستشار الأمن القومي في حكومة ترامب، قال في أكثر من مناسبة، إن ايران خرقت الاتفاق النووي بسبب تجربتها للصواريخ الباليستية، في حين نفى جواد ظريف في وقت لاحق أن الصواريخ الباليستية تحمل رؤوسًا نووية، مُؤكدًا أنها تحمل "رأسًا دفاعيًا حربيًا طبيعيًا في مجال الدفاع المشروع"، كما نفى أن تكون الصواريخ الباليستية جزءًا من الاتفاق النووي أصلًا.
يُشار في هذا السياق أيضًا إلى ما حدث الخريف الماضي، حين هددت إيران بإسقاط طائرتي استطلاع تابعتين للبحرية الأمريكية، وحينها قال رئيس العمليات البحرية الأمريكية، إن قادته العسكريين "لديهم السلطة باتخاذ أي إجراء ضد إيران إذا لزم الأمر".
شهادة ترامب أمام الكونغرس ستحدد الكثير، فإما أن يستمر الاتفاق النووي أو أن تتراجع عنه أمريكا، ما يعني تصعيدًا قد لا يحمد عقباه
وعلى كل، يبقى أمر حدوث عمل عسكري ضد إيران مسألة بحاجة إلى مزيدِ نظر وقراءة معمقة في أوراق السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية، إذ ربما يكون الأمر مجرد عملية إلهاء كما ذكرت بعض التقارير، وللتغطية على ملف فضائح ترامب الذي لم يُغلق للآن. لكن الأهم من كل شيء هو ما سيفعله الرئيس الأمريكي في منتصف الشهر الجاري أمام الكونغرس، الذي سيحتاج منه إلى شهادة كاملة وتقرير خطي شامل عن ما يزعمه من خرق إيران للاتفاق النووي. هذه الشهادة هي الفيصل، فإما الاستمرار في الاتفاق النووي، أو العدول عنه، وهذا يعني تصاعد التوتر بين البلدين، وعلى مستوى العالم.
اقرأ/ي أيضًا:
هل نشهد حربًا أمريكية على إيران قريبًا؟
أمريكا تهدد وإيران تتوعد وأوروبا تحبس أنفاسها.. فما مصير الاتفاق النووي؟