لا يزال فيديو الفنان السوري ياسر العظمة، المعنون بـ"مكانك في القلب"، يُغري بمزيد من المناقشة لما فيه من زوايا لم تُغطَ بالشكل المناسب، ولإمكانية تقديم مقاربات سياسية واجتماعية، وفنية بطبيعة الحال.
تشارك المعارضون والموالون الغضب على العظمة مع أنه لم يُوجّه خطابه إلى أيٍّ منهما، بل خاطب فئة ثالثة هي الفئة الصامتة، كما تُعرف بين السوريين، التي تشبهه في التفكير ومقاربة الأمور، وتشاركه المشاعر الحزينة ذاتها على ما آلت إليه البلاد، دون منح ذلك الحزن أسبابَه ومقدماته المنطقية التي أدت إليه ليكون حزنًا نبيلًا.
لم يتكلم ياسر العظمة مع الضحية، ولا تكلم مع الجلّاد. لم يكن بتلك الشجاعة التي تجعله يقول إنّ هناك جلادًا. تحدّث عن الضحية لا معها. لم يسمها بدقة واكتفى بأن أشار إلى جزء من مأساتها وهو اللجوء
لم يتكلم ياسر العظمة مع الضحية، ولا تكلم مع الجلّاد. لم يكن بتلك الشجاعة التي تجعله يقول إنّ هناك جلادًا. تحدّث عن الضحية لا معها. لم يسمها بدقة واكتفى بأن أشار إلى جزء من مأساتها وهو اللجوء. وهنا يكمن الخطأ المنطقي في الهجوم عليه، فالرجل لم يتحدث مع مهاجميه أصلًا. لهذا نقول إنه تحدث عن الضحية لا معها. لكن مع من تحدّث؟ بكل بساطة، اختار مخاطبة من وقفوا خارج ترسمية سلطة ومعارضة، مؤيدين وثائرين، لاعتقاده أن الحلّ موجود عند الذين لم يدخلوا في هذه المعمعة، محافظين بذلك على نقاء ضمائرهم، وهي مرافعة تبريرية للذات، ذاته هو، لأنها تنتمي إلى هذه الفئة بأكثر من رابط، من بينها الصمت والنفعية. ولم تتكلم بعد مرور عقد من الزمن على المذبحة المفتوحة إلا لأنّ الكلام غدا بلا ثمن، وبهذا استمر الانتماء إلى تلك الفئة بالعنصر الأهم من العلاقة: النفعية.
لا نقول إن كلّ الصامتين نفعيين، ففيهم الخائفون، وفيهم اليائسون. نقصد الجزء الذي اختار الصمت حتى يرى إلى أين ستؤول الأمور. وهنا يصب خطاب العظمة. لكن خطأه أنّ خطابه معجون بخلاصة معجم السلطة الأسدية الذي تتحدث كل أبوابه عن أنّ الوطنية "شعور مغروس داخل خلايا كل إنسان" وأنّ علاقة الإنسان مع وطنه تقوم على "عشق الأرض". وغيرها من التخاريف التي تجرّد الإنسان من معانيه جاعلةً منه خادمًا لشيء عجيب اسمه: الوطن!
لعل أكثر ما تحتاجه سوريا، وغيرها من البلدان المقهورة، هو محاربة الوطن كتراب ومجد غابر ومشاعر جياشة، لأجل وطن الحقوق والعدالة والحريات.
أما التفاجؤ بالتعاسة التي أصابت سوريا فأمر محيّر فعلًا، لأنها بلاد تعيسة منذ وجودها، بل لعلها لم تكن إلا تعيسة، سواء بسبب تمزق خريطتها المستمر، أو بسبب الفشل في بنائها إنسانيًّا وإداريًّا، بحيث لم تستطيع أن تمثّل مساحة للإبداع الجماعيّ أو الفرديّ، في العلم أو الاقتصاد أو الحريات.. إلخ.
سوريا تعيسة لأنها لم تغادر وصف جبران خليل جبران لها قبل أكثر من قرن، حين كتب في إحدى رسائله إلى ماري هاسكل، وسوريا يومها أكبر مساحةً من سوريا يومنا: "أنا لست وطنيًا يا ماري، غير أن فؤادي يكتوي من أجل سوريا، لقد كانت الأقدار قاسية عليها إلى أبلغ حد، آه لقد كانت أكثر جدًا من قاسية. إن آلهتها قد ماتوا، وأبناءها قد تركوها ليطلبوا القوت في أصقاع نائية، وبناتها بكماوات عمياوات، ومع هذا فهي ما تزال حيةً حيةً، وهذا أشدّ شيء إيلامًا، أنها حية في وسط تعاستها". وهي تعيسة أيضًا في الكتب التي تصف موتها في قرون أبعد من زمن جبران. ونحن، أبناء زمانها هذا، عشنا لنشهد كيف غدت تعاستُها صورةً لا كلمةً، تعاسةٌ تُرى لا تُقرأ في الصحائف وحسب.
الغريب أن العظمة بكل حزنه الذي يريد منا تصديقه لم يبك. لم يذرف دمعةً واحدةً. وحتى حينما وصل إلى ذروة الفيديو، إلى قراءة رسالة ابن صديقه المنفيّ، تركَ الموسيقى التصويرية الحزينة والرخيصة تعلو لتتلاعب بعاطفة المشاهدين، فاعلةً بهم ما لم تستطعه عيونه.
لا بد أن يأتي زمن وتتوقف فيه هذه المقاربة البائسة بين وطن الإنسان وحياته، لأنها تخلط بين أمرين، علاقة الإنسان الطبيعية بمكانه من جهة، وافتراض وجود علاقة عاطفية بين الإنسان والدولة من جهة أخرى. العلاقة بين الإنسان والمكان تقتصر على ما يتصل بذكرياته وتجربته في البدايات، وربما يكون هذا المكان قرية أو حارة صغيرة من مدينة. لا يوجد من يقول إننا نتجنّس بحسب المكان. الجنسية مفهوم لاحق. لا تمنح الوديان والسهول جنسية لا للبشر ولا للحيوانات، بل تمنحهم حياة. لا يحنّ الإنسان لجنسيته بل يحنّ إلى بداياته الأولى.
الخلط بين هذه المفاهيم لا يحدث سوى في بلدان استبدادية، ومن يتبناه مندرج حتمًا في المنظومة الفكرية للاستبداد.
فأي وطن هذا والطائفية تنهش أحشاءه؟ وأي وطن يصلح للحياة والولاء بعدما ألقى جيشه البراميل على مواطنيه قبل أن يفعلها الأعداء؟
يخلط العظمة الشعور الطبيعي نحو المكان بالشعور الوطني أو القومي المصنوع بالخيال الجماعي والسردية التاريخية والمشروع السياسي. والخلاصة تزوير حقائق، فأي وطن هذا والطائفية تنهش أحشاءه؟ وأي وطن يصلح للحياة والولاء بعدما ألقى جيشه البراميل على مواطنيه قبل أن يفعلها الأعداء؟ وفوق هذا كله توجّب على الناجين من القصف أثناء هربهم إلى النجاة الوقوع بين براثن إعلام الوطن ليسخر منهم، ويشمت بهم!
هذا بالضبط هو عمل غاسل الأدمغة الذي يحترفه العظمة، ويصرّ على الاستمرار فيه.
هناك نقطة مهمة يجب التركيز عليها عند الحديث عن حب الوطن والولاء له، وعن وجوب الرحيل عنه حين تظهر أسباب غياب الأمان والاستقرار، وهي أن هذا البلد فشل في أن يكون حاضرة لأهله، وأخفق في أن يضمهم للحضارة، وبالتالي حين يرحل أهله عنه فإنما يعودون إلى زمن أولي، زمن ما قبل الحضارة.
لا علاقة لهذا كله بذكريات الناس عن سلسلة مرايا، ولا بدوره الترفيهي. فالعظمة كان ظريفًا ومؤثرًا، لكن في زمن آخر، ضمن ظروف معروفة، ولا يمكن له أن يستمر إلى الأبد ما دام الزمن صنيع التغيير.
هناك فنانون مثله لعبوا الدور نفسه، وإن بحرفية أقل، لكنهم رحلوا عن عالمنا قبل انفجار البلاد، ما يعني أنهم أصبحوا جزءًا من تاريخ فنيّ وثقافيّ للبلد، يمكننا مناقشتهم في سياقات محددة، لكن أن يأتي العظمة مستعملًا الثقل المعنوي القديم ليكرّس مفاهيم جديدة، في زمن ما بعد الإخفاق، فهذا أمر يحتاج إلى تصدٍّ فكريّ بكل تأكيد.
لو جاز لنا تشبيه النظام الدكتاتوري بالطبخة ذات المقادير الرئيسة والضرورية، والأخرى التي تتعلّق بالذوق الخاص، فلن يتشبّه ياسر العظمة بغير تلك الرشة الإضافية من أحد البهارات التي يضعها الطبّاخون على الإنترنت وهم يقولون "بحسب الرغبة". ما يعني أن النكهة هنا تتعلّق بمزاج من يطبخون لا بوجود هذه الرشة بالذات.
احتمالات وجود هذه الرشة المُنَكِّهة تساوي احتمالات انعدامها، ما دام الأمر برمته يتعلّق بغرض تريده السلطة في النهاية، فدكتاتورية صدام حسين، على سبيل المثال، لم تشهد اهتمامًا مشابهًا بالممثلين لكون المغنين قاموا بالدور نفسه.
أمّن النظام السوري نفسه في مرحلة الأب من خلال ثالوث حديديّ يقوم على ثلاثة عوامل في عهد الأسد الأب: الأمن (جيش ومخابرات: مصطفى طلاس ومحمد الخولي)، الإعلام (مذيعون وممثلون: عدنان بوظو ودريد لحام)، الدين (مفتون وخطباء: أحمد كفتارو ومحمد سعيد رمضان البوطي ومروان شيخو).
هذه هي الترسيمة الرئيسة، التي تحتمل إضافة أسماء أخرى في كل عامل، استمرت حتى عهد الأسد الابن مع تغيّر في الأسماء لا في الأدوار، فنجد في الجانب الأمني: ماهر الأسد وجميل الحسن، وفي الدين: المفتي أحمد بدر الدين حسون، وفي الإعلام لدينا كتيبة واسعة ومتنوعة من الإعلاميين والفنانين أشد متانة من عهد الأب، لا سيما مع تطوّر الدراما السورية وانتشارها عربيًّا.
يقع ياسر العظمة في هذه الخريطة في موقع الرفد والدعم لدور دريد لحام الاستثنائي، من حيث الأسلوب والمواضيع والمقولات. وعمله كما يعرف الجميع يصب في صالح وفائدة النظام السوري الذي يصر على تعريف نفسه كنظام ثوري تقدمي جاء على خلفية "ثورة" اشتراكية، ويهدف إلى تحقيق الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية وتحرير الأراضي المحتلة، خصوصًا في مرحلة ما بعد هزيمة عام 1967 التي جلبت حافظ الأسد إلى سدة الحكم.
مسلسل مرايا صورة طبق الأصل عن النظام السوري، فالعظمة هو الرجل الوحيد الذي يقوم بكل شيء، البطل الذي يلعب جميع الأدوار ويتخذ جميع القرارات؛ صورة عن سوريا خلال عقود من البطش وسلطة الرجل الواحد
تدور معظم أعمال دريد لحام حول هذه الأفكار، خصوصًا في المسرحيات السياسية: "ضيعة تشرين" و"غربة" و"كاسك يا وطن" و"شقائق النعمان". إنها حول النضال لإنهاء الاستغلال والاستعمار والفساد والانتهازية.
يمكن اعتبار مسرحية "كاسك يا وطن" التي أنتجت عام 1979 جوهرًا للشكل الفني الذي اعتمده ياسر العظمة في سلسلة "مرايا"، الذي ظهرت بعدها بزمن قليل عام 1982، لأن هذه المسرحية تقوم على لوحات منفصلة متصلة داخل مبنى إذاعة افتراضية اسمها "راديو عرب كارلو".
صنع لحام، والعظمة كرافد لهذا الخط، مدرسةً فنيةً عرفت ممثلين عديدين في العالم العربي، مثل محمد صبحي في مصر، وموسى حجازين في الأردن. ميزة هذه المدرسة مخاطبة الأخلاق الاجتماعية القارة والمتفق عليها، وبناء سردياتها على أساس الشعارات الوطنية التي لم يتحقق منها شيء، والحديث عن القهر دون المساس بذرة من صانعيه. ومن هذه المدرسة خرج مسلسل "بقعة ضوء" مع تجاوز لسطوة الممثل الواحد التي عرفتها "مرايا"، وكذلك خرج مسرح همام الحوت.
لا تخرج النتاجات الفنية لهذه المدرسة عن الأهداف المرسومة لها من قبل السلطات الداعمة لها، وإن كان دورها النقدي لا يتعدى حيّز التنفيس، فإن الإعمال الأساسية فيها لعبت دورًا على مستوى غسيل الأدمغة، وذلك من خلال تأكيد خطاب السلطة وترسيخه عبر النكات والأفيهات، وأيضًا في الحصول على مصداقية عند الجمهور من أجل استعمالها مجددًا في وقوف هؤلاء الفنانين جميعًا موقفًا داعمًا للسلطة التي أنتجتهم.
وإذا عدنا إلى أسطورة سلسلة "مرايا" فأول ما يجب أن يقال هو أن عملًا تموله سلطة سياسية، وتعرضه على منصتها الوحيدة، لن يكون عملًا في نقدها أبدًا، حتى إن بدا كذلك، بل سيصب في خدمة أهدافها واستراتيجياتها. وما يبدو لنا نقدًا جارحًا ليس سوى جزء بسيط موجّه نحو أفراد صغار في الأجهزة الإدارية، ونحو جشع النفس البشرية الذي يمثله التجار.
الأمر الذي لا يزال يثير انتباه الحريصين على الحقيقة هو تفرد ياسر العظمة بالمساحة الأكبر من العمل، إلى درجة أن هناك حديثًا يدور في كواليس المسلسل حول دكتاتورية راسخة في تفكيره وممارسته. يضاف إلى ذلك أزمة الأمانة الأدبية التي عرفها المسلسل بشكل علني، حيث نُسبت قصص عالمية ومحلية إلى العظمة كصانع للعمل. وحين ثارت ثائرة النقد عليه اخترع اختراعًا عجيبًا في خانة التأليف، حيث نسب العمل لنفسه قائلًا "مما قرأ وسمع وشاهد". وهذا بتعبير زماننا: تعفيش أدبي.
ولعل المفارقة الكبرى تظهر في أن المسلسل الشهير مثّلَ، بشكل أو آخر، صورة للنظام، بدلًا من صورة تعارضه. مقولةٌ تدعي نقدَ السلطة لتستنسخها. فالعظمة هو الرجل الوحيد الذي يقوم بكل شيء، البطل الذي يلعب جميع الأدوار ويتخذ جميع القرارات؛ صورة عن سوريا خلال عقود من البطش وسلطة الرجل الواحد.
الملاحظة الأخيرة تخص اللغة السجعية الباحثة عن موعظة سطحية أو فكاهة تأتي من اللعب بالكلام.. هذه تنتمي إلى أشكال فنية مندثرة في النثر العربي، خصوصًا المقامة، وحين يصر العظمة على العودة المستمرة إلى هذا الشكل الفني القائم على الزخرفة اللفظية بالدرجة الأولى فإنه يكرس نوعًا من الرجعية الفكرية التي تغدو فيها اللغة مبنى دون معنى.
يحضر هنا رأي للناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو حول الحريري، صاحب المقامات الشهير، إذ يرى أنه صاحب أعظم كتاب أدبي ألّفه العرب، لكن ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر أخذ تأثيره يتلاشى بسبب دخول النثر العربي إلى الحداثة، حيث صار الحريري، بزخرفاته اللفظية وسجعه رمزًا للكتابة القديمة.
مع هذا الرأي، يمكن القول إن مُسجّعات العظمة ترجعنا إلى القرن التاسع عشر.