يجذبني سؤال الهوية كثيرًا، يهمني وتشغلني أبعاده، ويؤرقني السؤال الجذري الذي يأتي قبله: سؤال الوجود وحقيقته، وما يعلق بذلك من أسئلة الذات وأصلها والوعي بها.
يشغلني ذلك كله وأمضي وقتًا كثيرًا في البحث -غالبًا دون طائل- عن إجابات لأسئلة ربما تكون خاطئة أصلًا، لأنها غالبًا لم تبدأ من خط الانطلاق السليم، يحصل ذلك في تراكم زمني ومعرفي للأسئلة وأجوبتها وتفاصيل البحث فيها، وأدرك أحيانًا أن كل إنسان، إذا كان محظوظًا، يمر بتلك اللحظة التي يبدأ معها الشكَ فيما حوله، في ذاته، في حقيقته، وفي وجوده.
تقدم قصة "ترومان شو" نقدًا واقعيًا للحياة، وليس فقط محاولة لتوصيف حالة فلسفية من الجهل بالذات
قد تأتي تلك اللحظة على شكل معلومة، وقد تأتي كصدمةٍ معرفية بالغة، تعيد ترتيب الأفكار في العقل، وتفتح أبوابًا من التأمل لم تخطر لذلك الإنسان على بال من قبل، فيزيد انتباهه للعالم المحيط به، ويركز أكثر في الأشياء الصغيرة، والكبيرة، على أمل أن يصل يومًا ما إلى وعي أعمق بما هو عليه.
وهو إذ يفعل ذلك، لا يفعله عن إدراك تام، إنما يتبع سير الأحداث العشوائية من حوله، محاولًا التكيف مع واقع الشك الذي أوصلته إليه انقطاعات الحياة الرتيبة، محاولًا الوصول إلى حقيقة أكبر من تلك التي اعتادها في كل ما مضى من عمره.
اقرأ/ي أيضًا: نصيحة سكورسيزي للسينمائيين الشباب.. 9 أفلام أجنبية خالدة عليك مشاهدتها
مثل ذلك، ما حدث مع ترومان بوربانك، في الفيلم العبقري لبيتر وير، الذي يحمل اسم العرض بداخله، The Truman Show، حيثُ تبدأ القصة بلحظة استفاقة، لحظة انقطاع غير طبيعي لرتابة الحياة اليومية، بسقوط ضوء/نجم من السماء قرب ترومان، معلنًا بدايةَ سلسلةٍ من الاضطرابات في واقعه المعتاد، تبدأ معها الأشياء بالتغير ويبدأ انتباه ترومان لها يزيد، ويبدأ وعي المشاهد يتطور مع وعيه، يكتشفان زيف الأحداث واختلال المنطق فيها، فينضج الإدراك ويتفتح العقل أخيرًا عن حقيقة الذات.
تلك الذات المحتجزة في قبة عملاقة، نراها ولا يراها ترومان، نعلم يقينًا، قبل أن يعلم هو ظنًا، أنه في خدعة هائلة، تدار بحذر شديد منذ مولده، في عالم مصنوعة تفاصيله بدقة بالغة، دخله ترومان رضيعًا وأمضى فيه عمره كله، غير شاكٍ في حقيقته، غير آبه حتى بتلك الحقيقة. حتى سقط أمامه ذلك النجم من السماء! فكسر بتكسّره حاجزًا من التعودِ والتكرار كان ترومان خلفه لأعوام طويلة يعيش حياته واثقًا أنها هي الحياة الوحيدة الممكنة.
وكما عبر مخرج العرض (داخل الفيلم) كريستوف، ببلاغة عن تلك الحلقة المفرغة من عدم الوعي بالواقع: "إننا نقبل حقيقة العالم التي تقدم لنا"، فإن ترومان عاش طول عمره متقبلًا حقيقة العالم التي قدمت به بالتدريج والتفصيل، كأي مولود آخر في أي عالم آخر: أيام وسنوات وأحداث ومراحل، تتابع في سير منتظم لا يمنح الفرد للشك في واقعيتها/ حتى تأتي، بالصدفة غالبًا، لحظة استفاقة تبدأ معها أحجار الدومينو بالتساقط، واحدة بعد الأخرى، حتى تنتهي بمعرفة حقيقة جديدة، ربما ليست هي الأخيرة.
تسير أحداث الفيلم بشبه مثير للحياة خارج القبة التي احتجز فيها ترومان طول عمره، كأنما يعبر ذلك عن زيفٍ ملازم لفكرة العالم نفسها، فكل حياة هي سيناريو مكتوب، يتخلله الارتباك أحيانًا، لكن خطوطه العريضة مرسومة ومحفورة في عقل من يعيش تلك الحياة وفي العالم من حوله.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الملك آرثر: أسطورة السيف".. غاي ريتشي التائه في عالم الفانتازيا
كل إنسان هو رهينة لحياته، لما وجد نفسه فيه، لما كان قبله، ولما لا يستطيع تغييره! كل إنسان هو ترومان، حتى ولو كان يعرف قصة ترومان. الفرق الوحيد ربما، هو في حدود العالم الذي نعيشه، أي في حدود الزيف، وامتداد الوجود، ومتى ما انتفى الزيف يبدأ الوعي، متى ما توقفنا عن التمسك بما نظنه حقيقة وتركنا توقعاتنا ووُثوقيتنا جانبا، فإننا نبدأ في تسلقِ السماء نحو العتمة في آخر السؤال، نحو كسر جدار التخيل، نحو وعي أعمق قليلًا بحقيقتنا المتغيرة.
تقدم قصة ترومان أيضًا نقدًا واقعيًا للحياة المُعاشة، وليس فقط محاولة لتوصيف حالة فلسفية من الجهل بالذات. تقدم ذلك النقد في قالب عفوي من المفاجآت التي لا دخل لترومان/لنا فيها، تعلّمنا بتتابعها المثير وكشفها لأجزاء من الصورة الكبرى، أن المعرفة وحدها لا تكفي، لا يكفي فقط أن ندرك زيف الوجود، بل يجب أن نتصرف للخروج من ذلك الزيف، وإلا فإن كل شيء من حولنا سيحاول إبقاء الواقع كما هو، دون تغير أو تغيير.
"ترومان شو" يبقى أهم أداء لجيم كاري، قريبًا من قدرته البديعة على خلط الكوميديا بالجِد، وتمثيل أصعب الأدوار بعفوية تامة
فكاتب القصة يريد استمرارها ليستمر نجاحه، والمجتمع (الممثلون) من حولنا يجدون في تلك الحقيقة الزائفة حياة أسهل لهم، حتى ولو كانت مبنية على أساس من النفاق الاجتماعي.
لا يكفي إذًا أن نكتشف ذواتنا، إنما يجب أن نبحر كما فعل ترومان نحو أقصى ما يمكننا الوصول إليه من عالمنا المحدود، حتى نكسر حائطه الأخير، ونفتح باباً نحو عالم مختلف، ثم نخطو إلى المجهول، بخوف ربما، لكن بثقة أن المجهول دائمًا أفضل من الوهم.
على الهامش من المتن أعلاه، أعتقد أن "ترومان شو" يبقى أهم أداء لجيم كاري، قريبًا من قدرته البديعة على خلط الكوميديا بالجِد، وتمثيل أصعب الأدوار بعفوية تامة، ثم أقترح عليكم مشاهدة هذا التحليل الجميل لإيفان بوشاك حول معنى آخر في الفيلم.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم Buena Vista Social Club: Adios دراما أساطير الموسيقى الكوبية