"المشروع العصري" و"الفكر البورقيبي الحداثي" هي العناوين التسويقية لحركة "مشروع تونس" التي يقودها محسن مرزوق، بيد أن هذه العناوين تخفي وراءها حقيقة مشروعًا آخر هو المشروع الإماراتي في تونس، وهو ما قد لا يتجادل فيه مهتمّان بالشأن العام التونسي. فلم تكن من قبيل المفاجأة أن تدعو مؤخرًا ورقة مسرّبة من مركز أبحاث إماراتي لدعم محسن مرزوق من أجل إسقاط الإسلاميين وفرض النفوذ الإماراتي.
تبيّن وضوحًا لمرزوق أن الإمارات رفعت دعمها عن السبسي، فوجد الساحة تنتظره لكي يكون قائد المشروع الإماراتي في تونس، لوحده هذه المرة
ويعمل محسن مرزوق لتثبيت "مشروعه" في المشهد السياسي على تبّني خطاب الثنائية المتشنّجة من "الوطنيين"، حيث يصوّر نفسه كفارسهم المغوار، في مواجهة الإسلاميين "الأشرار"، الذين تارة يعتبرهم خطرًا على المشروع الوطني دون إقصائهم، وتارة يطالب بعزلهم كليًا.
وقد سبق وأشاد محسن مرزوق، حينما كان قياديًا في حزب نداء تونس، بالانقلاب العسكري في مصر في صيف 2013، وهو الانقلاب الذي أغراه وأغرى جماعته لإزاحة الإسلاميين بالقوّة وهو ما لم تنكره قيادات حزبه وقتها. حيث يستذكر التونسيون جيّدًا اعتراف إحدى هذه القيادات بأن هناك من لم يمانع بقتل 30 ألف تونسي في حرب أهلية وذلك فقط لإسقاط الإسلاميين كما حدث في مصر، وكانت أصابع الاتهام تتوجّه نحو محسن مرزوق، فقد أدلى صاحب الاعتراف باعترافه في سياق صراع معه.
اقرأ/ي أيضًا: الإمارات بين محاربة الإخوان وفوبيا الثورات
وليس غريبًا عمومًا أن تصدر دعوات القتل والإقصاء من محسن مرزوق، حيث لم ينس التونسيون خطابه الفاشي في اجتماع شعبي بعد أسابيع من انقلاب عسكر مصر حينما قال: "نحن وطنيون دماؤنا حمراء نقية ودماء الإسلاميين سوداء"، فيما كان دقًّا لطبول حرب لطالما لهث وراءها محسن مرزوق لإنهاء "شبح" الإسلاميين وذلك قبل أن يضطرّ حزبه نداء تونس للجلوس معهم على طاولة واحدة في حوار وطني، أفشل حينها كلّ مخطّطّات الانقلاب الهادفة لإفشال مسار الانتقال الديمقراطي. وهو حوار انتهى بتوافق أعاد المنظومة القديمة للواجهة السياسية، ويقول عنه الإسلاميون ردًّا على تحفظّات القوى الثورية: "هي تنازلات مؤلمة تفاديًا لمخطّط سيناريو مصري هدّام".
ولم يمنع فشل المخطط الإماراتي لتنفيذ السيناريو المصري في تونس أن يراهن الإماراتيون مجدّدًا على حزب نداء تونس لإقصاء الإسلاميين بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية. غير أنه حصل ما لا يتوافق مع الأجندة الإماراتية وذلك بإعلان تحالف بين الإسلاميين وحزب نداء تونس بداية 2015، وهو تحالف كان مرزوق أحد عرّابيه قبل أن ينقلب عليه بعد إغراء الإماراتيين له من جديد. حيث تولّى مرزوق، في البداية، خطة مستشار سياسي لرئيس الجمهورية، وكان يتولّى الأمانة العامة للحزب الحاكم، ورغم ذلك طمع في الكثير، حيث ضاقت عليه مناصبه وخاصة حينما تبيّن وضوحًا بأن الإمارات رفعت دعمها عن السبسي، فوجد الساحة تنتظره لكي يكون قائد المشروع الإماراتي في تونس، ولكن لوحده هذه المرّة.
لا فرص لنجاح المشروع الإماراتي في تونس إلا في سياق توتر وتصعيد ومن ثم "إنقاذ"
انشقّ محسن مرزوق عن نداء تونس وأنشأ سنة 2016 حزب "مشروع تونس" ونأى بنفسه عن التحالف مع الإسلاميين، وتبنّى من جديد خطابًا تصعيديًا ضدّهم. وانطلق في الأثناء حزبه في الانتشار بسرعة عبر تركيز مكاتب جهوية وتنظيم اجتماعات شعبية سخيّة، فلم تكن رائحة "الرزّ الإماراتي" ببعيدة. في الأثناء، واصلت الإمارات قطيعة غير معلنة مع تونس، برفض منح التأشيرات للتونسيين، وذلك مع تواصل تعليق الاستثمارات الإماراتية. فما الحاجة للاستثمار في بلد يبني ديمقراطية وليدة باتت نموذجًا للشعب العربي؟
ضمن محاولات العودة لمربع ما قبل التوافق، قاد محسن مرزوق، في نيسان/أبريل الماضي، لفيفًا من الأحزاب الصغيرة ليؤسس "جبهة الإنقاذ والتقدم" في سعي لبناء جبهة معارضة في مواجهة السلطة وتحديدًا الإسلاميين، حيث لا فرص لنجاح المشروع الإماراتي إلا في سياق توتر وتصعيد و"إنقاذ"، وزادهم مرزوق هذه المرة "التقدم"، للتمييز عن "جبهة الإنقاذ" التي تأسست في صيف 2013 على غرار شبيهتها المصرية، والتي فشلت في تحقيق مشروعها الإنقلابي وقتها.
اقرأ/ي أيضًا: السراج وحفتر في الإمارات.. هل نضج الحل السياسي في ليبيا على طاولة غير محايدة؟
لم يكتف محسن مرزوق بذلك. فحينما أطلق قائد السبسي مبادرة لحل الأزمة الليبية قبل أشهر، سارع "صبّي الإمارات" للسفر لشرق ليبيا ليلاقي المشير خليفة حفتر، الذي كان قد رفض المبادرة التونسية بل ورفض دعوة لمقابلة السبسي، فمثل لقاء محسن مرزوق بذلك مؤشرًا على مدى انخراطه في المشروع الإقليمي الإماراتي بما يتجاوز مصالح الدولة التونسية. وهو لقاء قيل إنه تم بتنسيق مع رئاسة الجمهورية التي نفت ذلك لاحقًا، ليجد مرزوق نفسه في موضع تسلّل.
والعلاقات بين الإماراتيين ومحسن مرزوق ليست مجرّد تقاطع مصالح أو غيره، بل قوامها تنسيق بين الطرفين. فقبل أشهر، كشف وليد الجلاد، القيادي السابق في "مشروع تونس"، أن مرزوق، مصحوبًا برجل الأعمال ورئيس حزب "الاتحاد الوطني الحرّ" سليم الرياحي، التقى محمد دحلان، المستشار الأمني لمحمد بن زايد في صربيا، وتحدى الجلاد أن يقع نفي هذا اللقاء الذي لم يُكشف عن محتواه، والذي لا يتمحور على الأرجح حول دعم مسار الانتقال الديمقراطي في تونس!
يعوّل حاليًا محسن مرزوق على الإماراتيين لدعمه ماليًا من أجل تثبيت حزبه في الساحة السياسية مقابل ولاء سياسي لمشروع محمد بن زايد الذي لا عنوان له إلا إجهاض الانتقال الديمقراطي وإقصاء الإسلاميين بالسّلاح والدّم. ويعي محسن مرزوق صعوبة تنفيذ هذا المشروع حتى لو وصل للسلطة، وذلك كما سبقه السبسي الذي في النهاية أدار ظهره للإماراتيين بالنظر لتكلفة مطالبهم على السلم الأهلي وعلى الديمقراطية الوليدة التي تقضّ مضاجع ابن زايد وحاشيته.
هي الديمقراطية التي باتت منارة في أعين المصريين والليبيين والسوريين واليمنيين وكل الشعب العربي. فهي التي أسقطت كل ادعاءات المشروع الإماراتي الانقلابي، حيث أثبتت أن الثورة هي طريق التحرر والكرامة وليس الدمار والخراب كما يدّعون، كما أكدت أنه يمكن التوافق بين الإسلاميين وغير الإسلاميين دون تناحر من أجل وطن للجميع قوامه سيادة القانون، لكن لا تزال هذه الديمقراطية الوليدة تقلق الكثيرين.
اقرأ/ي أيضًا: