"كيف تبدأ هذه الحكاية؟
-تبدأ مثل الكثير من الحكايات.
بفتى. كبير على أن يكون طفلًا. صغير على أن يكون رجلًا. وكابوس".
يدور هذا الحديث الصغير في بداية الفيلم من وراء الشاشة بعد أن استيقظ كونور من كابوسه خائفًا، ملتقطًا أنفاسه بصعوبة. يبدو أنها ليست أول مرة يرى أمه تخسف بها الأرض في مقبرة وهو ويحاول إنقاذها. يقوم من سريره، ينظر إلى الساعة 07:12، ثم يلمح شجرة من نافذته بجانب مقبرة.
لكن هذا الفيلم ليس كباقي الأفلام، وهذه الحكاية ليست أبدًا كباقي الحكايات. وهذه الدقائق الأولى من الفيلم تخبرنا بأننا إن كنا ننتظر قصة من قصص الأطفال المفعمة بالطاقة، الإيجابيّة والأمل فقد دخلنا على الصالة الخطأ.
الدقائق الأولى من فيلم a monster calls تخبرنا أننا إن كنا ننتظر قصة أطفال مفعمة بالطاقة والإيجابية والأمل فقد دخلنا الصالة الخطأ
قبل أن يصبح الكتاب فيلمًا، كانت الفكرة في رأس شيفون داود، وكانت قد بدأت العمل عليها قبل موتها، بعد أن أصيبت بالسرطان. ثم أكمل العمل من بعدها الكاتب باتريك نس، والذي أيضًا كتب نص الفيلم.
القصة تدور في عالم من الواقعية السحرية، حيث التمازج الجميل بين الحقيقة والخيال. كونور أومالي (لويس ماكدوغال) طفل يحاول التعايش مع أمور كثيرة: أولها مرض أمه (فيليسيتي جونز) العضال، جدّته (سيغورني ويفر) التي لا يبدو أنها تتعاطف مع حالته، والده (توبي كيبيل) الذي يعيش في بلد آخر، وزميل متنمّر في المدرسة. عند الساعة 07:12 في كل يوم يجد كونور وحشًا عتيقًا، بريًا بلا شفقة (ليام نيسون) عند نافذته يحاول إخباره ثلاث قصص، ليستطيع كونور إخباره الرابعة.
اقرأ/ي أيضًا: نسخة جديدة من فيلم "سكارفيس" يخرجها الأخوان كوين
وعندما يعترض الصبي كونور على الوحش بأن القصص ليس لها معنى، وهي غير حقيقية ولا تفيد بشيء. يرد عليه بأن "القصص هي مخلوقات وحشية. إن أطلقت لها العنان فمن يدري كمَّ الخراب الذي ستعيثه". وبالفعل هكذا يعامل المخرج الإسباني "خوان أنطونيو بايونا" فيلمه. فهو يحاول أن يقدم لنا معالجة جدّية لطفلٍ في سن الرشد. فلا يبقى بايونا على سطح شخصيته الرئيسية على غرار أفلام ديزني أو بيكسار التي تحاول تقديم ساعة ونصف من المرح للأطفال، بل يغوص في أعماق شخصية كونور أومالي، ويعالج الأزمة النفسية التي يواجهها بجدية وعمق.
فإذا نظرنا إلى القصص المقدمة في الأفلام الشائعة لهذه الفئة العمرية (الأولاد في عمر البلوغ والمراهقين) فهي أغلبها إما أفلام فانتازيا سطحية كسلسلة "توايلات" مثلًا، أو مضخةٌ للرومانسية الساذجة مثل "النوت بوك"، أو دمجٌ لمقاطع فوضى وتدمير كسلسلة "فاست أند فيروس". وهنا نتفق مع كونور أن هذه القصص فعلًا ليس لها معنى. لكن إستخدام الفانتازيا هنا يأتي مصاحبًا لدراما قويّة، ليعطينا جرعة متعددة الطبقات عن كيفية تطور سايكلوجيا الولد وتكوين شخصيته في هذه المرحلة العمرية. بالأخص كونور الذي يواجه أسئلة فلسفية عميقة عن الوجود، الموت، والوحدة ويحاول فهم الصراع بين الخير والشر.
وفي قصة تشبه "الفيريتايلز" يرويها له الوحش، بدا كأنه يستهزئ من قصة رأيناها سابقًا في أحد تلك الأفلام، فيقول لكونور أنه لا يوجد دائمًا شخص "طيب" ولا حتى شخص "شرير"، أغلبية الناس تقع في الوسط.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "مانشستر على البحر": ما نفقده ولا نعود بعده
نلاحظ أزمة كونار تجاه مرض أمه في طريقة رؤيته للعالم من حوله. فهو يعرض الفيلم من نظرته الشخصية، فلا نجد أي ذكر لكلمة "السرطان" في الفيلم. يبدو الأمر واضحًا لنا بأنّه كذلك، لكن لا أحد يذكرها، فقط يشيرون إلى أنها مريضة. حتى أن كونور عندما يريد التكلم عن علاجها لا يذكر "الكيموثيرابي" (العلاج الكيميائي) بل يقول فقط إنها تتعالج وفي تحسّن. ومع أنه يقولها بثقة كبيرة للناس وخاصّة لأبيه، إلّا أننا نعلم أن أمله هذا مزيف. فقد رأينا كابوسه في المقطع الأول، وخوفه من فقدان أمه. فهي فعليًا كلُّ ما يملك، والشخص الوحيد الذي على علاقة معه. فجدّته لا تُظهر له أيَّ عاطفة، ووالده لا يريد أن يأخذه معه إلى أميركا ليعيش مع عائلته الجديدة، وفي المدرسة يظل وحيدًا إلا مع صبي يضربه دائمًا قبل أن يعود إلى البيت. نرى ذلك من خلال لقطة جوية أمام باب مدرسة كونور، حيث يقف كصخرة ثابتة بينما يمر الأطفال من حوله، ينظر إلى الصبي المتنمر كأنه يدعوه لأن يضربه.
نجح مخرج فيلم a monster calls بايونا في نقل مشاعر حزن حقيقية لنا، ولم يكتف بأن يرويَ لنا قصة عن مرارة فقدان شخص
نجح المخرج بايونا في نقل مشاعر حزن حقيقية لنا، ولم يكتف بأن يرويَ لنا قصة عن مرارة فقدان شخص، بل استطاع أن يدخلنا في التجربة لنعيش الأسى مع كونور أومالي.
يشبه الفيلم بواقعيته السحرية فيلم "متاهة لابيرينث" لديل تورو، وليس فقط من قصته بل بأسلوب بايونا البصري القريب جدًا على "والده الروحي" كما يسميه. فكانا قد عملا سابقًا على فيلم بايونا الأول "الميتم". لذا يخرج لنا وحش هذا الفيلم بشكل مميز وجميل، ويماثله بذلك التصوير السينمائي الواسع والمتقن الذي كما استطاع نقل مشاعر جياشة لنا، إلى جانب برودة مدينة كونور، فقد استطاع أيضًا نقل الدفء في صور متقنة الصنع تمزج الخيال والحقيقة ببراعة. يصحب ذلك مقاطع كرتونية فنية جميلة يقطع إليها المخرج بطريقة سلسلة لنرى قصص الوحش بمنظور آخر.
أداء لويس ماكدوغال في دور الطفل كونور يأخذ الأنفاس، فقد نجح في نقل تعقيد شخصية صبي يمر في هكذا ظروف ببراعة شديدة. العلاقة الجميلة الذي أستطاع إظهارها مع فيليسيتي جونز التي تلعب دور أمه تظهر لنا من خلال نظراته لها، فهي تتفاعل معه بأداء متقن مليء بالحب. "دعوة وحش" ليس فيلمًا سهلًا على الكبار، وصعبًا للغاية على الأطفال والمراهقين. رغم أن هذا ما جعله مميزًا وجديرًا بالإحترام، إلا أن أفلام كهذه لا تباع بسهولة. فرغم فشله في شبابيك التذاكر، إلا أنه نجح في إظهار أهمية القصص وتأثيرها علينا. وكيف أنه في أكثر اللحظات ظلمة في حياتنا قد نحتاج وحشًا يروي لنا قصة.
اقرأ/ي أيضًا:
"Land of Mine".. حروب الدنمارك التي أغفلها التاريخ
مهرجان برلين.. آراء سياسية وأفلام عن اللاجئين