قدّم المفكر العربيّ عزمي بشارة، في 2009 في دمشق، وذلك ضمن فعاليات "احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية"، محاضرةً بعنوان "ما القدس؟ ولماذا القدس؟" (نعيد نشر نصّها الكامل في القسم الثقافي)، أسّس فيها لرؤية سياسية وطنيّة تحرريّة، تنظر فيها إلى فلسطين بوصفها مشروعًا تحرريًا عربيًا، تكون القدس فيه بمثابة المحور.
عزمي بشارة: يحق للمستعمَرين الاستناد إلى رأسمالهم الرمزي، ولدى القدس تلك الطاقة الرمزية الكبيرة وطنيًا ودينيًا.
ولهذا بالذات جاءت المداخلة بعنوان "لماذا القدس؟" لتقول إنها عدسة مكبّرة يُعاين من خلالها عزمي بشارة زمنًا عربيًا هشًّا، وواقعًا فلسطينيًّا مذبوحًا بالانقسام، وهو أمرٌ يتمرى في مرايا اللحظة الراهنة، ويجعل من هذه المحاضرة، خصوصًا في سياق إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أمس، نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل؛ عودةً إلى ينبوع فكريّ صافٍ، ومنهج جليّ واضح صارم، يضع القدس في مكانها المحوري في مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. تعرية ديمقراطية إسرائيل المتناقضة
أكّد عزمي بشارة على رمزية القدس، واعتبر أنه يحق للمستعمَرين الاستناد إلى رأسمالهم الرمزي، ولدى القدس تلك الطاقة الرمزية الكبيرة وطنيًا ودينيًا.
كذلك إن الحديث عن القدس، استنادًا إلى الآية القرآنية "سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله"، يمسّ محيط القدس العام، فالتعبير القرآنيّ "حوله"، بحسب مختلف التفاسير، يعني بلاد الشام، يعني المحيط العربي بلغة اليوم، الأمر الذي يجعل الحديث عن القدس هو حديث في العمق عن منطقة كاملة، لا مجرد رمز ديني تستعمله الأنظمة إعلاميًا.
تناولت المحاضرة عملية تهويد المدينة التي بدأت مع احتلال القسم الشرقي منها عام 1967، وذلك بهدف إخراجها من أيّ سياق تفاوضي، عبر عدة استراتيجيات: التطهير العرقي، والتخطيط والبناء، وضم أوسع مساحة.
رأى عزمي بشارة أن التطهير العرقي في القدس يأخذ شكلًا مبتكرًا، يجعل من سكّان المدينة مهاجرين، فيما يجعل من الصهاينة أصحاب المكان الأصليين، في قلب صهيوني خبيث للحقائق، وبتعبيره الذي لا يخلو من سخرية قال: "في السياسات الإسرائيلية تتم سرقة البلد بطريق ديمقراطية".
عزمي بشارة: التطهير العرقي في القدس يأخذ شكلًا مبتكرًا، يجعل من سكّان المدينة مهاجرين إليها
يتخذ الطرد والحرمان والتطهير أشكالًا متعدّدة، منها "سحب الهويات"، وهو حرمان المقدسيين من حق الإقامة إذا غابوا عن المدينة لثلاث سنوات، لأية أسباب كانت، لكونهم يُخلّون بشروط الهجرة إلى إسرائيل، وبهذا يتم إفراغ المدينة من سكانها بشكل منهجي.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. خرائط الحرية
كما أن هناك لجنة وزارية اسمها "لجنة شؤون القدس"، مكونة من خمسة وزراء، لديهم اجتماعات غير معلنة، من قرارتها منع زيادة السكان العرب عن الـ 20%من مجمل السكان، بما يسمح بجعل اليهود أغلبية.
بالإضافة إلى أن التوسع الاستيطاني المستمر للمستوطنات جعل من المدينة العربية، بديعة الجمال المشادة على تلال سبع، مجرد حيّ عربي داخل مدينة يهودية. ناهيك أن المساحة الآن تعادل، بسبب هذا التوسع السرطاني، مساحة قدس عام 1967 أربعة أضعاف.
أشاد صاحب "أن تكون عربيًا في أيامنا" ببسالة المقدسيين الذي يخوضون حربًا دون مقومات، يواجهون فيها سياسات دولة تستفرد بهم عائلة.. عائلة. وبسبب غياب المؤسسات بات المسجد الأقصى بؤرة استقطاب لديهم، واعتبر أن تنادي الناس للالتفاف حول المسجد كرمز أمر يستحق التقدير.
ومن أهم ما أشار إليه هو رسالة جورج بوش الابن إلى شارون، بتاريخ 14. 4. 2004التي يعتبر فيها العودة إلى حدود 1949 غير واقعية، وهي بمثابة "وعد بلفور" أمريكي جديد. وهذا ما يمكن ربطه بما فعله ترامب، ما يجعل اليوم شبيهًا بالبارحة. وهنا سخر مرة أخرى من تطور اللغة الاستعمارية بين حديث بلفور أن حكومته تنظر "بعين العطف"، وهي لغة فرسان الكولونيالية، وبين اللغة الأمريكية الجديدة التي يستعمل فيها بوش الابن تعبير "نتفهم" بدلًا من قاموس بلفور.
في موضوع "يهودية الدولة"، الذي لم يغادر الفضاء السياسي في المنطقة حتى يومنا، قال إنه لا جديد في إعلان يهودية الدولة، فإسرائيل أُعلنت بالأصل دولةً يهوديةً، وجاءت تجسيدًا للحلم الصهيوني، ويهوديتها تستحوذ على كل ملامحها، فهي يهودية دينيًا، ويهودية قوميًا، ويهودية بأغلبية سكانها بالنسبة للسياسات الإسرائيلية، الأمر الذي يؤكد أن لا فصل للدين عن الدولة.
عزمي بشارة: اعتراف الأمة العربية بيهودية الدولة يعني اعترافًا بالصهيونية، ما يقود إلى تأثيم كامل التاريخ العربي
أول من طرح "يهودية الدولة" هو أرييل شارون، وذلك خلال مفاوضات العقبة. وبرأي عزمي بشارة هذا إخراج لموضوع إسرائيلي داخلي إلى حيز السياسة الدولة، وهنا تساءل: لماذا انتقلت إسرائيل من التعامل مع ذاتها كدولة يهودية، إلى الطلب من العرب على أن يعاملوها كذلك؟ والإجابة ان الاعتراف بيهوديتها عربيًّا تحمل الكثير من الرسائل، في مقدمتها أمران خطيران، الأول إلغاء حق العودة، وهو ما يضع العرب في تناقض مع أنفسهم حين يطالبون بعودة أكثرية عربية إلى دولة يهودية، والثاني هو اعتراف الأمة العربية بالصهيونية، وليس بإسرائيل فقط، ما يعني تأثيم مجمل التاريخ العربي، وقلب الطاولة على العرب، بحيث يصبحون معتدين على الحق الإسرائيلي طوال الوقت.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: "الجيش والسياسة" مدخلًا لفهم الدولة الوطنية العربية
تناولت المحاضرة محاولة ذات صلة، مثل التسوية والانقسام الفلسطيني، وتناولت بالنقد المشهد السياسي آنذاك، لكنّ المقولة الأساس كانت الدعوة إلى عدم اختزال فلسطين بالقدس خلال مقاومة الاحتلال، ولا اختزال القدس بالحرم الشريف، فما يجب أن يحدث هو العكس: "كل القدس هي أقصى، وكل فلسطين هي قدس"، ما يجعل فلسطين قضية أمة بأكملها، بعيدًا عمن يقول بأنها فلسطينية وحسب، فهذه هي نفس العقلية العربية الحاكمة التي تقول الفقر قضية الفقراء، والصحة قضية المرضى. وبهذا ربط محاور المحاضرة ككل في خيط واحد، هو أن ما قضية القدس، والتسوية وتناقضاتها مع العودة، والانقسام الفلسطيني الداخلي.. إنما هي ناجمة عن وضع الأمة العربية.
اقرأ/ي أيضًا: