نادرًا ما قدمت السينما الأوروبية قصصًا عن الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في الدول الإسكندنافية، التركيز الأكبر كان دائمًا على انتصار جحافل جيوش الحلفاء، أو "هولوكوست" النازيين ضد اليهود الأوروبيين، إذ إنها تجنبت الحديث عن الطرف المهزوم، دول المحور، في الحرب التي راح ضحيتها أكثر من 80 مليون قتيل.
في شريطه السينمائي السادس "أرض الألغام" نصًا وإخراجًا، ومن إنتاج دنماركي-ألماني، يقدم الدنماركي، مارتن زاندفليت، قصة مختلفة عن المرحلة التي رافقت انتهاء الحرب العالمية الثانية في الدنمارك، عندما يسرد قصة 14 جنديًا ألمانيًا من أصل ألفي جندي وقعوا أسرى بيد الجيش الدنماركي، وفرض عليهم إزالة أكثر من مليوني لغم أرضي زرعهم الألمان على الساحل الغربي.
يفتتح زاندفليت أولى مشاهد شريطه السينمائي الذي أثار جدلًا محليًا عبر سيارة عسكرية يقودها رقيب في الجيش الدنماركي، رونالد مولر (الرقيب كارل)، يستفزه حمل أحد الجنود الأسرى لعلم بلاده، ويقوم بإيقاف سيارته وينهال على الجندي بالضرب المبرح، بهذا المشهد المليء بالعنف الممزوج بالوطنية، الانتقام، الحقد، يدخل المتفرج في دوامة من القسوة المفرطة، التي سترافقه في كامل الأحداث حتى النهاية.
يسرد فيلم Land of Mine قصة 14 جنديًا ألمانيًا فرض عليهم إزالة أكثر من مليوني لغم أرضي
"أرض الألغام" لم يكن ضمن الأعمال الأجنبية التي نافست في جوائز "غولدن غلوب" من نسختها الأخيرة، لكن نجده حاضرًا في الـ26 من الشهر الجاري في الحفل الختامي لتوزيع جوائز الأوسكار، رغم أن التنبؤات تتجه لعمل "هي" الفرنسي، الحائز على جائزة المسابقة الأولى، كون -غولدن غلوب- تعتبر بوابة الفوز بالجائزة السينمائية الأشهر عالميًا.
ومن ثم سيكون من الغريب أن يربح فيلم أجنبي للمرة الثالثة على التوالي يروي قصة مقتبسة عن الحرب العالمية الثانية، النسختان السابقتان كانت الجائزة من نصيب على التوالي، البولندي "إيدا" 2015، والمجري "ابن شاوول" 2016، والفيلمان يتحدثان عن المجازر التي تعرض لها اليهود الأوروبيون في تلك الحقبة، لذا ليس غريبًا ألا يحصل العمل على الجائزة، لكنه أشار بدوره لتجربة سينمائية مختلفة عما سبقتها، وبيّنت جانبًا من التاريخ المجهول للعنف الممارس خلال الحروب.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Split": هل يستحق المشاهدة؟
يقوم الجيش الدنماركي بإجراء دورات سريعة للجنود الألمان الأسرى على كيفية إزالة الألغام التي زرعها الألمان على الساحل الغربي لإعاقة تقدم الحلفاء، ويتم إرسال 12 جنديًا للعمل على تنظيف إحدى مناطق الساحل الغربي المزروع فيها 45 ألف لغمٍ تحت إمرة "الرقيب كارل".
نستعيد مع "الرقيب كارل" في المشهد الذي يلتقي به الجنود لأول مرة، قليلًا من صورة أر لي إيرمي "الرقيب هوفمان" في شريط ستانلي كوبريك "سترة معدنية واقية"، عندما كان يتحدث للمجندين الأمريكيين الذين سيرسلون بعد تخرجهم من الدورة التدريبية للقتال في فيتنام، صحيح أن القصتين مختلفتان، لكن مولر قدم في بداية "أرض الألغام" شيئًا مشابهًا من شخصية الرقيب العنيفة عبر حديثه مع الجنود الأسرى.
الفيلم لقي نقدًا حادًا من المجتمع المحلي الدنماركي لما قدمه من تاريخ عير مسرود عن تلك الحقبة التي رافقت انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ إن الدنماركيين سَخّروا الأسرى الألمان، الذين هم ليسوا إلا فتية لم تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة، قام الزعيم النازي أدولف هتلر بتجنيدهم تداركًا منه لخسارة الحرب، وبعد انتحاره لم يجدوا من يدافع عنهم، وهو ما يظهر من عدم حديثهم فيما بينهم عما حصل بعد خسارتهم الحرب، أو جهلهم بما حل في بلادهم وعائلاتهم.
يقول زاندفليت في تصريح صحفي: "عندما علمت في البداية أن الألمان أجبروا على إزالة الألغام من الشواطئ، أصبحت أكثر اهتمامًا بالقصة وذعرت من هول فكرة أن الأطفال هم من توجب عليهم القيام بهذا العمل"، ويضيف "لطالما شعرت بأنه بالطبع يجب على الألمان إزالة الألغام بأنفسهم، ولكن هل كان من الضروري أن يكونوا أطفالًا؟".
كما أنه احتاج أن يبحث أكثر في مراجع مختلفة لأنه "لا يوجد كتاب تاريخ واحد كتب عن هذا الموضوع"، وهو ما دفعه لبذل جهد مضاعف حتى يتمكن من جمع خيوط قصته التي يظن المتفرج في البداية أنه أمام حفلة قاسية من التعذيب، حيثُ قتل وأصيب نصف الفتية الألمان الذين أسرهم الدنماركيون، أي ألف فتى أسير، وجاء أمر تكليفهم بهذه المهمة الشاقة بطرق بدائية، وظروف قاسية جعلتهم يبقون لأيام بلا طعام بناء على مقترح بريطاني، علمًا أنه في عام 2012 أعلن رسميًا شبه جزيرة "سكالينغن" الدنماركية خالية من الألغام.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Nocturnal Animals" كائنات ليلية تحبس الأنفاس
استطاع زاندفليت في معظم لقطات العمل أن يجعل المتفرج يحبس أنفاسه عند لحظة البحث عن الألغام على الساحل الدنماركي، ويركز أكثر على الأيادي المغروسة في الرمال، وحالات الارتباك التي تصيب الفتية كلما وجدوا لغمًا، والجثث المتطايرة رغم محاولته تجنب المشاهد العنيفة بجثث مشوهة، إذ اكتفى بلقطات بعيدة عند كل لغم منفجر، ونظرات حائرة للفتية الذين لا يعرفون متى تنتهي مأساتهم حتى يعودوا لأرض الوطن، تجعل الآخر حائرًا من مصير الفتية الذين ألحق بهم اثنان آخران، وفي النهاية لم يعد إلا أربعة من أصل الـ14، اثنان قتلا خلال عملية إزالة الألغام، وواحد انتحر بعد أن سار في المنطقة غير المنظفة عمدًا متأثرًا بمقتل شقيقه التوأم، وسبعة انفجرت بهم سيارة كانوا يضعون الألغام المفككة بها.
"أرض الألغام" فيلم آخر عن ضحايا الحروب المنسية، عن التعاطف الإنساني للضحية الذي أصبح جلادًا، قدم صورة مختلفة عن الدنمارك
يختلف "أرض الألغام" منذ الدقيقة الـ35 عن أحداثه السابقة، ويظهر التعاطف من "الرقيب كارل" مع الفتية الأسرى، حين يسمع مناداة أحدهم بعد إصابته بلغم فشل في تفكيكه بـ"أريد أمي"، الجانب الإنساني يبرز جيدًا مع هذا المشهد، وما يتبعه من مشاهد أخرى، يتخللها نوع من القسوة والانتقام، لكنها تبقى مرافقة لشخصية مولر الذي قدم أداء لا يقل أهمية عن باقي طاقم العمل.
ولا يمكن إغفال الدور التمثيلي الذي لعبه الفتية بقدر عال من الحساسية، واستفادة المصورة السينمائية كاميلا كنودسن، وهي زوجة زاندفليت، من كافة المناظر الطبيعية المتاحة لها، إضافة للموسيقى التصويرية التي عمل على تأليفها، سونيه مارتين، وأبقت المتفرج مشدودًا معها حتى النهاية، جميعها ساهمت بإنجاز سيرة ذاتية لأسرى دول المحور الذين لقوا حتفهم في حرب لا دخل لهم بها.
"أرض الألغام" فيلم آخر عن ضحايا الحروب المنسية، عن التعاطف الإنساني للضحية الذي أصبح جلادًا، وقسوة آخرين، قدم صورة مختلفة عن الدنمارك، دفعت عددًا من الدنماركيين ببعث رسائل تهديد لمارتن زاندفليت، أوصلته للقول: "الأمر لا يتعلق بتوجيه اتهام للأمة، لكنه معني أكثر بالإنسانية، وكيف نعامل بعضنا البعض، إنه تعليق على مجتمعنا حاليًا في الحقيقة".
اقرأ/ي أيضًا: