بعد تعاونه الأول مع شبكة نتفليكس في إخراج المسلسل ذائع الصيت "هاوس أوف كاردز"، كرّر السينمائي الأمريكي ديفيد فينشر الأمر، والنتيجة كانت مسلسلًا جديدًا بعنوان "مايندهانتر" حجز لنفسه مكانًا مميزًا للغاية ضمن قائمة أفضل الإنتاجات التلفزيونية لهذا العام. الموسم الأول من "مايندهانتر" عُرض في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ومن المقرر تجديد المسلسل لموسم ثانٍ سيعرض في أواخر 2018.
هل هناك صفات أو ملامح تخبرنا بأن شخصًا بعينه سيكون مجرمًا في المستقبل؟ وكيف يمكن فهم عقلية المجرمين إذا لم نفكر مثلهم؟
"مايندهانتر" ليس عن السياسيين كسابقه، بل عن السفاحين، ولكنه في طريقه يكسر قواعد كثيرة ارتبطت بذلك النوع الدرامي المتمحور حول عالم التحقيقات الجنائية. لكن ما الذي يميّز "مايندهانتر" فعلًا؟
اقرأ/ي أيضًا: مسلسل Westworld: في المشترك بين السينما والفلسفة
تبدأ الحكاية في مسلسل "مايندهانتر" صيف عام 1977، حين تصدّرت أخبار سلسلة من جرائم القتل عناوين الصحف الأمريكية. حلّ الارتباك بين أوساط المحققين ورجال الأمن، لأن لا أحد تمكن من تقديم تفسير مسبب حول تلك الجرائم البشعة والغريبة. قاتل يضاجع ضحاياه، وآخر يقطّع أوصالهم، وآخر يغتصب أطفالًا بالتخصص. عمليات قتل تعسفية، دون دوافع واضحة ومعقدة إلى حدّ يصعب معه قبول التفسيرات المبسّطة لرجال الشرطة. إنه نمط جديد من الجرائم يليق فعلًا بعقد السبعينيات الأمريكي الذي شهد اضطرابات سياسية واجتماعية بارزة.
وسط هذه الأجواء، يظهر هولدن فورد (جوناثان غروف) المحقق الفيدرالي الشاب الذي يدفعه فشله المبكر في إحدى العمليات التي يتولّاها (في أول مشهد من المسلسل) إلى السعي وراء إجابات وتفسيرات لما يفعله المجرمون والقتلة. وبما أن الإجابة الصحيحة لا تأتي إلا عبر طرح الأسئلة الصحيحة، سيقوم فورد بطرح ثلاثة أسئلة بسيطة: هل يولد المجرم مجرمًا؟ وإذا كان كذلك فهل هناك صفات أو ملامح تخبرنا بأن شخصًا بعينه سيكون مجرمًا في المستقبل؟ وكيف يمكن فهم عقلية المجرمين إذا لم نفكر مثلهم؟
باختياره لتلك الفترة الزمنية من تاريخ أمريكا، يرصد "مايندهانتر" الكيفية التي تغيّر بها بها الفكر الأمني الأمريكي في النظر إلى الجريمة والمجرم، بديلًا من مجانية التأكيد المسبق على أن الأشرار يولدون أشرارًا، أو أن المجرم يكون هكذا بالفطرة. في قلب تلك الأيام الأولى لمشاركة مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) في دراسات علم النفس السلوكي الجنائي، هناك محقق شاب طموح متحمس ومندفع (فورد) يجد حليفًا له هو العميل المخضرم بول تينش (هولت ماكلاني) عرك التعامل مع "المؤسسة" بملحقاتها البيروقراطية والروتينية، فيقرّر الأخير انتشال فورد من إحباطه ويعرض عليه مرافقته في زياراته الدورية لأقسام الشرطة. يجوب كلاهما بالسيارة الأنحاء الأمريكية لتدريب رجال الشرطة وتقريبهم من التقنيات النفسية التي يعملان عليها من أجل معرفة دوافع المجرم أو حتى الشخص العادي لارتكاب الجريمة، لكن الصدفة والفضول ستضعانهما أمام نوع جديد ومثير من القتلة.
في إحدى الحصص التدريبية للثنائي في سانتا كروز، التي كانت مسرحًا لإحدى جرائم القتل المتسلسل في السبعينيات، يقوم فورد بشكل غير قانوني بزيارة قاتل سيئ السمعة في إحدى السجون الحصينة. اسمه إدموند كيمبر، وإذا كان الاسم لا يثير أي شيء لدى القارئ/المشاهد العربي، فجولة سريعة على جوجل ستكون كافية للتعريف بهذا القاتل المثير للاهتمام. كيمبر عملاق طويل القامة بملامح دقيقة ومظهر ودود للغاية لا يوحي بطبيعته. قتل كيمبر 10 أشخاص، ثمانية منهم خلال سنة واحدة، وهو سايكوباتي كما يقول الكتاب: لديه من الذكاء ما يكفي لإبهار محدّثه، ومنظّم في جرائمه، ولا يبدي أي نوع من الندم.
في "مايندهانتر"، شخصية كار مثل شخصية حبيبة هولدن، ديبي، تسمح للمسلسل بالعروج على مواضيع جانبية
"أنا في المنزل وأخرج إلى الدرج، حاملًا رأًسا مقطوعة لتوها قطر منها حوالي نصف لتر من الدم في كيس قمامة سميك، ثم فجأة يظهر هذين العاشقين المثاليين ويمرّان بي، لأدرك أنني طوال حياتي لم أخرج مع أي شخص في موعد غرامي". مثل هذا الخطاب قادر على تجميد الدم في وريد المشاهدين، أو على الأقل بعضهم، حتى من دون رؤية المشهد نفسه. يكفي أن نعرف أن إد كيمبر شخصية حقيقة بالفعل، وأن عميلي الإف بي آي هما أيضا مستوحيان من شخصيات حقيقية.
اقرأ/ي أيضًا: ما الذي يحاول صانعو مسلسل Rick And Morty قوله؟
في مسعاهما لتطوير أبحاثهما، يقوم فورد وتينش بمقابلة مجموعة من القتلة المتسلسلين (توصلا إلى ذلك المصطلح في الحلقة السابعة من المسلسل) المسجونين، ممهدين طريقًا صعبًا وشاقًا أمامها للغوص داخل نفسيات أولئك القتلة المميزين، سيساعدهم لاحقًا في حل بعض الجرائم الملغزة في جولاتهما عبر الأراضي الأمريكية. في الأثناء، يأتيهما دعم أكاديمي ومعرفي من جانب ويندي كار الأستاذة الجامعية المهتمة بدراسة سيكولوجيا الأفراد، بما في ذلك العديد من المرضى النفسيين الذين يتقاسمون نفس السمات الشخصية كما إد كيمبر (في أحد المشاهد، ثمة تلميح إلى دونالد ترامب واعتلاله نفسيًا). مع اكتمال المثلث البحثي للفريق وحصوله على الدعم بشكل رسمي ومباشر من الكونجرس، ستشجعهم كار على العمل بشكل منهجي وتصنيف الموضوعات من أجل الخروج بنتائج مفيدة قابلة للتطوير.
شخصية كار مثل شخصية حبيبة هولدن، ديبي (هانا غروس)، تسمح لمسلسل مايندهانتر بالتعريج على مواضيع جانبية، مثل المثلية الجنسية وإعادة الاعتبار للنساء وحتى تقديم خطاب نسوي تقدمي. لكن أكثر الأمور إثارة للاهتمام في تقديم المسلسل لهذا "الكاراكتر"، بخلاف الكاستينغ الجيد وراء اختيار آنا تورف لهذا الدور، هو الدقة في رسم معالمها: كلمات أجنبية تتساقط من لسانها، وأسماء علماء واستخلاصات نظريات وتاريخ أبحاث واقتباسات أدبية. وإذا داخل المتفرج شك في ما يسمعه، فلديه جوجل للبحث عما تعنيه نظريات إميل دوركايم أو عمن يكون إيرفنغ غوفمان، ومعرفة الرابط بين تلك الأسماء وأعمالهم وبين قصة المسلسل وتطور أبحاث أبطاله. هذه الشجاعة والاتساق المتواجدين في "مايندهانتر" يضعانه على مسافة محترمة من باقي دراما التحقيقات والجريمة، فالأمر هنا لا يتعلق بجريمة ما أو تمثيل بشاعتها على الشاشة، بل عن تحليلها ومحاولة فهمها وفهم عقلية نوع متطرف من المجرمين. هو استقصاء شاق وأنيق في الوقت ذاته، رحلة صيد ذهنية مضاف إليها نزهات فرعية تضيئ جوانب شخصية في حياة شخصياته.
الحبكة التي وصلت إلى درجة عالية من التعقيد والغنى هي ما يمنع "مايندهانتر" من الارتكان إلى المألوف
اقرأ/ي أيضًا: هل نجح الموسم السابع لـGame of Thrones في آخر حلقتين؟
أن توجد حبكة بهذه الدرجة من التعقيد والغنى هو ما يمنع "مايندهانتر" من الارتكان إلى المألوف وتخدير نفسه بفنتازيات القتلة المتسلسلين وشيطنتهم مسبقا. ففي النهاية، "موت سيدة جميلة هو الموضوع الأكثر شاعرية في العالم"، كما يقول إدغار آلان بو، والقتل نوع من الفن، كما يقول إد كيمبر في إحدى تجلّياته.
اقرأ/ي أيضًا: