هذه المساحة مخصصة، كل أربعاء، لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.
في كانون الثاني/ يناير 1924، نشرت مجلة "الهلال" المصرية مقالًا للكاتب والصحفي والمصري سلامة موسى (1887 – 1958) بعنوان "مصطفى صادق الرافعي: المذهب القديم والمذهب الجديد"، في سلسلة "صورة موجزة لأدباء مصر"، التي تناول فيها سلامة تجارب عددٍ من الأدباء المصريين، مثل مصطفى لطفي المنفلوطي، وعباس محمود العقاد، وحافظ إبراهيم، وغيرهم.
لم يكن نقد سلامة موسى موجهًا إلى أسلوب مصطفى صادق الرافعي فقط، بل إلى عموم الجماعة الأدبية التي ينتمي إليها
لم تحظى تجربة مصطفى صادق الرافعي (1880 – 1937) في هذه المقالة بأكثر من بضع كلماتٍ أضاءت، باقتضابٍ شديد، على بعض ملامحها وسماتها. فالغاية منها ليست تناول تجربة الرافعي، بل أسلوبه الذي يندرج ضمن ما اصطلح على تسميته آنذاك بـ "المذهب القديم"، وهو المصطلح الذي استخدمه الأدباء المجددون في وصف الأدباء المحافظين، مما يجعل من مقالة موسى جزءًا من المعارك والسجالات الثقافية التي دارت بين الطرفين، وشارك فيها عددٌ من الأدباء والمثقفين العرب، حول مسألة القديم والجديد في الأدب أسلوبًا ومضمونًا.
استهل سلامة موسى مقاله بوصف أدباء "المذهب القديم" بأنهم: "طبقة من الأدباء لها عيون في خلف رؤوسها، فإذا نظرت لم ترَ سوى الماضي. ثم هي مع ذلك لا ترى كل الماضي. وهي لو استطاعت أن تفعل ذلك، لكانت لها من ذلك بصيرة بالحاضر والمستقبل". وهذا ما يفسِّر، وفق تعبيره، إصرار هذه الطبقة على أنه ينبغي للأديب، إذا أراد أن يكون أديبًا حقيقيًا، أن: "يقلد العرب ويحتذي كتابهم في أساليبهم ومراميهم".
يصف الصحفي المصري الراحل هذا السلوك بأنه "وطنية أدبية"، مردّها إلى: "العقل الباطن الذي يخلط بين الدين والقومية والأدب العربي". ويرى أن الخروج عما هو مألوف ومتوارث في هذا الأدب، يوهم أفراد هذه الطبقة بأنهم خرجوا: "عن الدين والقومية العربية".
ويعتبر سلامة موسى أن الفرق بين مذهب هذه الطبقة و"المذهب الجديد"، هو: "فرقٌ بين التقدم والركود، أو الحياة والموت". فبينما يميل أدباء "المذهب الجديد" إلى الاعتناء بالصنعة والفن معًا، يكتفي أدباء "القديم" باحتراف الصنعة وإهمال الفن. يقول موسى: "نحن الآن بقوة ما ورثناه عن العرب، كثيرًا ما نعتني بالصنعة ونهمل الفن، فنتعلق بالقشور ونترك اللب".
ويُعيب الكاتب المصري على أهل "المذهب القديم"، إهمالهم للعلم الذي يرى أن لا قاعدة للأدب الأوروبي والروسي سواه. ويُعيد هذا الإهمال، الذي يصل إلى حدود الرفض المتعمد، إلى الماضي الذي يقول إنه: "يستغرق نظرهم، فليس لهم من الوقت أو الرغبة ما يدفعهم إلى درس الحاضر أو المستقبل". ويعني موسى بكلامه هذا أكثر ما يعني مصطفى الرافعي وشكيب أرسلان بدرجةٍ أقل.
يقول موسى إن الرافعي يجيد صنعة الأدب أيما إجادة، لكنه لا يُعنى بالفن، فإذا كتب: "اتسقت عباراته، وانتظمت ألفاظه، فأتى بالعجب. ولكن الحقيقة، أي الجمال، لا تشغله في نظمه ونثره". بالإضافة إلى أنه: "لا يكاد يؤمن بالعالم، بل لا نجد له أثرًا في جميع كتاباته". ويستنكر اعتقاده بأن: "الفقر ضربة لازب قد حكم به الله ولا مرد لحكمه. كأنه لم يسمع عن الاشتراكية في حياته".
يشبّه مصطفى الرافعي مخاصمة المذهب الأدبي الجديد للقديم بمثل رجلٍ يرى ظل رأسه على الحائط فيضربه برأسه الذي على عنقه
لم يكن نقد سلامة موسى موجهًا إلى أسلوب مصطفى صادق الرافعي فقط، بل إلى عموم الجماعة التي ينتمي إليها، أو أهل "المذهب القديم" على حد قوله. كما أن مقاله لم تكن مجرد سجالٍ بين مذهبين أدبيين فقط، بل بين معتقدات وخلفيات ووجهات نظر سياسية وفكرية.
استدعت مقالة سلامة موسى ردًّا من مصطفى صادق الرافعي، الذي كتب مقالًا بعنوان "دفاع عن المذهب القديم" (الهلال، شباط فبراير 1924)، اعتبر فيه أن في كل عصر من عصور اللغة العربية: "شيئًا يمكن أن يسمى مذهبًا جديدًا، ولكننا لم نجد أحدًا سمّاه كذلك، ولا نبّه على أنه شيء بنفسه إلا في هذه الأيام الأخيرة. ثم لم نجده إلا من هؤلاء الذين غلبت عليهم صناعة الترجمة".
ويرى الكاتب المصري أن العلة لا ترجع إلى مذهبٍ قديمٍ أو جديد، بل إلى: "الضعف في لغة والقوة في أخرى، وأن صاحب المذهب الجديد أخذ بالحزم في واحدة وبالتضييع في الثانية، وأكثر من الإقبال على شيء دون الآخر، فتعلق به وأمضى أمره عليه وحسنت نيته فيه واستمكنت فصارت إلى نوع من العصبية للأدب الأجنبي وأهله".
ويقول في هذا السياق: "إن أرادوا "بالمذهب الجديد" العلم والتحقيق وتمحيص الرأي والإبداع في المعنى على أن تبقى اللغة قائمة على أصولها، وعلى أن يكون التفنن "طرائق" كما قيل في ابتداع القاضي الفاضل الذي سموه الطريقة الفاضلة، لا مذاهب يراد بها إثبات ومحو؛ فإننا لا ندفع شيئًا من هذا ولا ننازع فيه بل هو رأينا".
أما إذا أرادوا بالمذهب الجديد: "أن يكتب الكاتب في العربية منصرفًا إلى المعنى والغرض، تاركًا اللغة وشأنها، متعسفًا فيها، آخذًا ما يتفق كما يتفق (...) إن أرادوا بهذا وأشباهه للمذهب الأدبي الجديد، قلنا لا ثم لا ثم لا ثلاث مرات".
ويتساءل الكاتب الراحل هنا: "أيما خيرٌ لآدابنا وعلومنا وكتبنا: أن نحرص على الأصل الصحيح القوي الذي في أيدينا، ونتحمل فيه ضعف الضعفاء ونصبر على مدافعتهم عن إفساده حتى ينشأ جيل أقوى من جيل، وتخرج أمة خيرًا من أمة، فتجد الأصل سليمًا فتبني عليه وتزيد فيه؟ أم ندع الصلاح للفساد ونتراخى في القوة حتى تحول ضعفًا، فإذا جاء من بعدنا وجد في الأصل فاسدًا فزاد فساده؟".
يصف موسى سلوك أهل المذهب الأدبي القديم، بأنه "وطنية أدبية" مرّدها إلى العقل الباطن الذي يخلط بين الدين والقومية والأدب
وحذّر الرافعي أيضًا من أن: "يعود مذهبنا الجديد بعد حين من الدهر مذهبًا قديمًا، فيستحدث منه جديد على نمط آخر، ثم يتقادم هذا أيضًا على السنة نفسها، وهلم إلى أن تصير هذه العربية في بعض أزمانها لعنة على كل أزمانها".
واختتم الأديب المصري مقاله بقوله: "هذه كلمة لم نعرض في إجمالها للتفاصيل، وإنما حذرناها حذرًا، وبعد فإذا أردت تشبيهًا لمخاصمة المذهب الجديد للقديم وما يتوهمه هذا الجديد وما ينتهي إليه أمره، قلنا لك التمس رجلًا يرى ظل رأسه على الحائط فيضربه برأسه الذي على عنقه".