هذه المساحة مخصصة، كل أربعاء، لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.
في أواخر الثمانينيات، أصدر الكاتب والصحافي السوري رياض نجيب الريس (1937 – 2020) مجلة ثقافية فكرية حملت عنوان "الناقد"، ومثلت، طيلة 7 سنوات، علامة فارقة في تاريخ الدوريات الثقافية العربية الذي لم يشهد، منذ ذلك الوقت، تجربة في مثل جرأتها وأناقتها.
حرصت "الناقد" على أن تجمع على صفحاتها من لم يعد أحد قادرًا على جمعهم، وأن تنشر ما لا يجرؤ أحد على نشره
ولدت "الناقد"، التي صدر عددها الأول في تموز/ يوليو 1988، في زمن "الإحباط العربي" على حد تعبير رياض الريس، الذي قال في بيان تعريفي بالمجلة وزِّع على الكتّاب والأدباء العرب قبل صدورها، إن "الناقد" ستتصدى للضمور الإبداعي، وغياب المنابر الثقافية، وهيمنة الإعلام الرسمي، وتراجع تقاليد وقيم الديمقراطية في الفكر والثقافة العربيين، لصالح "ثقافة" الأنظمة السياسية.
وأكد الريس في بيانه أن "الناقد" ولدت من وحي رفض هذا الواقع وإرادة تغييره، من خلال توفيرها: "منبرًا لأقلام الخلق والتغيير والموقف، وموئلًا لكل الآراء والأفكار والاتجاهات والتجارب، في حرية وديمقراطية"، وعبر تناولها قضايا أدبية وثقافية مختلفة: "بهاجس الإخلاص في مواجهة الأزمات الحقيقية للإنسان العربي".
وأشار الراحل إلى أن "الناقد" تسعى، مع كتّابها، لأن: "تعيد إلى الكلمة بهاءها وسلطتها"، وأنها ستُعنى بشكلٍ خاص: "بقضية حرية التعبير في الوطن العربي، عبر إشاعة روح المبادرة والابتكار والتمرد والبحث عن الجديد والأصيل وعدم الاستكانة لما هو مهيمن ومألوف"، بالإضافة إلى تبنيها: "الدعوة إلى التلاقي والتضاد معًا"، وحرصها أيضًا على: "تشجيع الحوار بين أصحاب الفكرة المشتركة وأصحاب الأفكار المختلفة".
وحدد الريس طموحات مجلته وأهدافها في: "إتاحة الفرصة للكتّاب من مختلف الأجيال والأقطار العربية كي يعبّروا عما يشاؤون بحرية، وتحريضهم على ممارسة تلك الحرية. وتبني الجديد القيّم، والدعوة إلى موقف فكري جلي ورأي نقدي صريح. والاهتمام بالموهوبين من الأدباء الجدد ونشر نتاجهم، اهتمامًا دائم العناية والتطوير، حتى يصبح كشف المواهب الجديدة أو إطلاقها تقليدًا من تقاليد المجلة"، ونشر النتاج الإبداعي: "من منطلق بعيد عن التصنيف العقائدي أو السياسي أو شهرة الكاتب، بل يستند فقط إلى مقاييس الجودة والقيمة الذاتية للأثر".
بالإضافة إلى: "مواجهة الحياة الثقافية بمراجعة صارمة ونزيهة وشاملة تتجاوز التقاليد السلبية السائدة التي تعوق حركة التطور الثقافي في الوطن العربي، وتكون قادرة على استيعاب الغنى والتنوع وعناصر الاختلاف"، ناهيك عن: "التعريف النقدي بالكتب العربية (والأجنبية التي تهم القارئ العربي) الصادرة حديثًا، مع التركيز على أن النقد عملية خوض كياني مع الكاتب أو ضده، ولا معنى في أن تكون مراقبة حيادية"، والوقوف أخيرًا: "ضد كل ما يهدف ضبط الخيال باسم التقدمية، ولجم الفكر باسم المقدسات، ومراقبة الأقلام والأشخاص باسم الوطنية".
مثّلت "الناقد" علامة فارقة في تاريخ الدوريات الثقافية العربية الذي لم يشهد، منذ ذلك الوقت، تجربة في مثل جرأتها وأناقتها
وشدد رياض الريس في بيانه الذي حمل عنوانًا يعبّر عن طموحات المجلة وأهدافها "ضد كل ما يهدف ضبط الخيال ولجم ومراقبة الأقلام"، على استقلالية "الناقد" وعدم ارتباطها بأي دولة أو منظمة، ولفت أيضًا إلى أنها: "لن تكون طرفًا في المخاصمات الأدبية الراهنة في الوطن العربي".
وأكد الكاتب والصحافي الراحل في افتتاحية العدد الأول من المجلة، أن كل كاتب من كتّابها يعبّر عن رأيها، وأنها: "لا تشعر بأي تناقض بينها وبين كتّابها، على تعدد مشاربهم وأهوائهم واتجاهاتهم". كما أشار أيضًا إلى أنها: "ترغب في أن تجمع على صفحاتها من لم يعد أحد قادرًا على جمعهم وعلى صفحات مجلة واحدة. وأن تنشر ما لا يجرؤ أحد على نشره. وأن تتبنى من لم يعد أحد راغبًا في تبنيه".
استطاعت المجلة، على مدار 7 سنوات، تحقيق مجمل أهدافها، وتقديم نموذجًا جديدًا للمجلات الثقافية العربية، حيث يُجمع قراؤها على أنها التجربة الأكثر شجاعةً وجرأة في مجالها، بل والأكثر أناقةً أيضًا، إذ أبدى القائمون عليها اهتمامًا كبيرًا بشكلها بقدر اهتمامهم بمضمونها، الذي خُصص لتناول مواضيع لم يكن طرحها سهلًا خلال تلك المرحلة، التي واجهت فيها مختلف الدوريات الثقافية العربية عقبات عديدة مصدرها، غالبًا، الرقابة بمختلف أشكالها.
لم تكن "الناقد" بدورها بعيدة عن عسف الرقابة وممارساتها القمعية، حيث مُنعت، بسبب جرأتها وحساسية المواضيع التي تناولتها، من دخول عدة دول عربية، ليقتصر توزيعها على ثلاث دول دأبت أجهزة الرقابة في بعضها على نزع الصفحات التي تتضمن مواضيع إشكالية، سياسية أو فكرية، قبل السماح بتوزيعها.
ورغم أنها مثّلت واحدة من أكثر التجارب جرأةً في مجالها، وحافظت على صدورها بانتظام لا سابقة له، وحققت من النجاحات ما لم تحققه مجلة أخرى، إلا أنها لم تستمر طويلًا، حيث توقفت بعد صدور عددها الـ 84 في حزيران/ يونيو 1995، الذي افتُتح بكلمة لصاحبها رياض الريس الذي استهل كلمته بقوله إن: "الأشياء الجميلة لا بد لها من نهاية. و"الناقد" واحدة من هذه الأشياء الجميلة".
وقفت "الناقد" خلال سنوات صدورها ضد كل ما يهدف ضبط الخيال باسم التقدمية، ولجم الفكر باسم المقدسات، ومراقبة الأقلام والأشخاص باسم الوطنية
وأضاف الريس أن "الناقد": "أقرت منذ عددها الأول أن المجلات الثقافية في كل أنحاء العالم، لا سيما الفاعلة منها، لا تعمر طويلًا. تعيش فترة زمنية، تؤدي رسالتها وترحل، لأنها بطبيعة تكوينها كمجلة، تؤثر في جيل معين وفي فترة تاريخية معينة (...) فليس من مهمات المجلات الثقافية الفاعلة ومنها "الناقد" أن تعيش كل العصور وأن تعبّر عن كل الأشياء ولكل الناس".
واختتم رياض نجيب الريس كلمته بقوله: "إن كان لـ "الناقد" أن تزهو في ختام مسيرتها الحالية، فلا شيء جدير بأن تزهو به مثل نجاحها في تصديها الدائم للقوى التي تستميت في الدفاع عن التخلف وقيمه. وإن كان لها أن تتباهى، فهو أنها كانت في زمن الردة، أرضًا حرة في أوطان مختصة بصنع الأغلال وتفريخ المروجين لها. وإذا حظيت "الناقد" بثقة المبدعين العرب، من قراء وكتّاب، وخاصة الأجيال الجديدة منهم، فلأنها كانت مجلة مضيئة في عصر الظلمات".