في السادس من آب/أغسطس 1952، أي بعد أسابيع قليلة من قيام حركة الضباط الأحرار أو كما تُعرف بـ"ثورة يوليو"؛ استقبل الحي الشعبي الشهير السيدة زينب، بالقاهرة مولودًا جديدًا كان بمثابة ثورة صغيرة ستنفجر فيما بعد. جاء للعالم آنذاك المخرج "الفيلسوف" رضوان الكاشف، بالرغم من جذوره الأولى التي تنتمي لصعيد مصر، تحديدًا قرية كوم أشقاو بمحافظة سوهاج، حيث استقرت عائلته الصغيرة في حى منيل الروضة بالقاهرة، ليجد حياته مليئة بالسياسة وشؤونها إلى جانب الفن والفلسفة والمسرح.
إلى جانب الفن والسياسة، كان للمخرج المصري رضوان الكاشف اهتمام بالشعر والفلسفة، وقد ألف دراسات وأبحاث في الفلسفة الصوفية
وبعيدًا عن شغفه بالفن، كانت الصلة الأولى لرضوان الكاشف بالسياسة، لذلك نجده قد شارك مع آلاف المثقفين ومئات الآلاف من الجماهير الشعبية، في انتفاضة كانون الثاني/يناير 1977، التي سماها البعض بانتفاضة الخبز، وسماها السادات بانتفاضة الحرامية، واتُهم رضوان الكاشف بالتحريض عليها مع آخرين، ثم ألقي القبض عليه مرة أخرى عام 1981، في حملة السادات لاعتقال عدد من المثقفين.
اقرأ/ي أيضًا: السينما المصرية.. شريط يروي حكاية قرن
في بعض الأحيان تظهر فلسفة الأشخاص في اختفائهم أو صمتهم عن المشاركة المستمرة كتعبير عن رؤية محددة لا يحبذ الخروج عنها، فمثلًا كان يُسأل رضوان الكاشف كثيرًا خلال حوراته عن عدم تناسب عدد أفلامه مع مشواره الفني، فتكون إجابته بأنه درس في البداية الفلسفة وكانت له تجربة سياسية أخذت وقتًا من الزمن، ثم عمل مساعدًا لفترة، وكانت في حياته شروط قاسية وتأخرت في بدء الإخراج لحرصه على إنجاز أفلام حقيقية، مُضيفًا أن "مسألة أن تجد سيناريو يدهشك ليست سهلة، وإذا وجدته تبحث عن منتج، ولك أن تتخيل أنني انتظرت عشرة أعوام لأجد منتجًا لأحد أفلامي. وأنا أعتني بعملي جدًا وأكون دقيقًا ومعنيًا بأدق التفاصيل".
هذا ونستطيع الإقرار بفشل محاولات كسر رضوان الكاشف عن طريق اعتقاله الذي تم في عام 1981، فخرج وكأنه كما هو، ذهب ليدرس في معهد السينما عام 1984 ليصبح التلميذ الأمثل في الداخل، ويحصل على الترتيب الأول بين دفعته، ويفوز بجائزة العمل الأول من وزارة الثقافة عام 1988،عن أول أعماله، مشروع تخرجه الفيلم القصير بعنوان "الجنوبية"، الذي يحكي فيه عن رفض فتاة متحررة لتقاليد مجتمعها الذي أجبرها على الزواج من شخص لا تحبه، فتضطر لإيجاد عشيق في حياتها. ويكشف هذا الفيلم عن الأفكار الثورية لدى رضوان الكاشف منذ البداية.
إلى جانب كل هذا الزخم السياسي والفني، انشغل رضوان الكاشف كثيرًا بالشعر، وقدم عدة أبحاث ودراسات في الفلسفة الصوفية عند أعلام صوفيين مثل أبي نصر محمد الفارابي ومحيي الدين بن عربي وابن الفارض. كما أنه ألف كتابًا عن كاتب الثورة عبدالله النديم بعنوان "الحرية والعدالة في فكر عبدالله النديم"، وآخر عن المفكر زكي نجيب محمود بعنوان "قضية تجديد الفكر عند زكي نجيب محمود"، لتأتي باكورة أعمال رضوان الكاشف الفنية المعروضة، بعد فيلم مشروع تخرجه، لتعبر عن اهتماماته المغلفة بالفلسفة، فكان فيلم "ليه يا بنفسج".
واختير هذا الفيلم ضمن أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، بتعبيره عن الواقعية السينمائية الجديدة التي ظهرت مع هذا الجيل، وكان رضوان الكاشف أحد روادها بمساعدة كاتب لا يمكن إغفال دوره في الرحلة هو المؤلف سامي السيوي، صديق رضوان الكاشف، الذي قال في أحد لقاءاته، إنهما "صديقان منذ فترة طويلة، وهذه الصداقة تُسهّل فكرة أن يبوح كل منا بحرية عما يراه من دون خجل أو حسابات، وأن التفاهم بيننا جاء نتيجة العشرة الطويلة والثقافة ونحن نقترب من منطقة واحدة في رؤيتنا للأدب والسينما وهموم الواقع الذي نريد التعبير عنه".
"ليه يا بنفسج".. أن تقع في حب أشياء لن تنالها
إلى جانب كل فيلم لرضوان الكاشف، سنجد إهداء إلى شيء ما أو أشخاص بعينهم، هم من خلقوا إلهامه للعمل، وفي "ليه يا بنفسج" كان الإهداء إلى "كتّاب الستينيات والفرح بالكتابة"، في قصة تحكي عن أربعة شباب يجمع بينهم الفقر، أحدهم "شوقي شامخ"، يعاند الأحداث فيسرق من يعمل معهم ليصبح ثريًا/ ويهرب من الحارة، ويترك الثلاثة للفقر، وأعمال السرقة التي لا يعاقب عليها القانون!
جميعهم يسرق لحظات سعادته وحياته بالقوة، لكن للقصة محوران على التوازي، أحدهم عن الشاب أحمد (فاروق الفيشاوي)، الذي يشع شبابًا وطاقة، وحبًا للجميع، في حين يخذله الجميع في إِشارة للمجتمع أو الواقع. ويمثل أحمد في أحداث الفيلم انعكاسًا للحياة التي تحيط بالجميع، سواءً بشكل مباشر في تفكيره "وجدعنته" مع الأصدقاء وأهل المنطقة، أو بشكل غير مباشر عن طريق المحور الثاني للفيلم، والمتمثل في الفتاتين اللتين يتحرك الجميع لإرضائهما، الأولى قريبته سعاد الجميلة التي تحبه وتحتمل الحياة في الحارة فقط لأجله (بثينة رشوان)، والثانية نادية التي تعاشر الرجال، لكنها تحبه هو دونًا عن غيره، حُبًا جعلها تعيد النظر في الزواج من صديقه فقط لتظل بجانبه.
ينتهي الفيلم ليترك لنا نهاية مفتوحة وسؤالًا لم تُعرف إجابته بعد، وهو "ليه يا بنفسج بتبهج وإنت زهر حزين؟"، في رمزية خفية يمكن فهمها بهرب الفتاتين بعيدًا عن أحمد الذي يمثل الحياة بعد فقدان الأمل، وأيضًا كتعبير عن الرفض في نفس الوقت.
فيلم عرق البلح.. "الحياة من حقي وحدي"
ظل رضوان الكاشف يبحث لسنوات في مصر من شرقها لغربها، حتى وجد قرية مناسبة لتصوير فيلمه "عرق البلح"، الذي كان من كتابته وإخراجه. هذه القرية في محافظة الوادي الجديد. كان أوّل عرض للفيلم في حزيران/يونيو 1999، ولم يكمل أسبوعًا واحدًا داخل السينمات. وتحدث كثيرون وقتها عن فشله، لكنهم لم يعلموا أنه سيدخل قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، كما سيعرض في مهرجانات عديدة خارجية.
يبدأ رضوان الكاشف أفلامه بإهداءات إلى أشخاص أو أشياء لها رمزيتها الخاصة في فلسفته التي يُصورها من خلال أعماله الفنية
بدأ كالعادة بإهداء، كان هذه المرة إلى "الجنوبي المطارد بخبيئته، سلام إليك يوم تموت، ويوم تبعث حيًا"، عن حكاية "قرية رحل عنها الظل حين سقطت نخلاتها العاليات، وانكشف رعب الشمس". سقط النخيل برحيل الرجال عن نسائهم إلى الخارج، على أمل التحصل على المال الوفير بعد ذلك، غير عابئين بغير ذلك؛ لتترك النساء متسائلات: "وصيت عليا مين وسافرت يا محبوبي؟ وصيت عليا مين؟ خبط الهوا ع الباب قولت الغايب جاني، أتاريك يا باب كداب تضرب ع الفاضي".
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "عرق البلح".. نساءٌ عاريات تحت رعب الشّمس
لا رجل "يافع" في القرية سوى أحمد (محمد نجاتي) إلى جانب الجد العاجز عن الحياة بكل أشكالها (حمدي أحمد). أحمد وحده هو أمل كل النساء الذين سافر أزواجهن بعيدًا، وتركوا رغباتهن حبيسة الجدران. الجميع يرى في أحمد غنيمة وتعويضًا عن الزوج المفقود، حتى المحرمة عليه، لكنه الاحتياج، فعلى ما يبدو فإن فقد الأشياء لا تجلعنا نفكر سوى في وجود بديل لها لإشباعها.
على الجانب الآخر، تقف البنت الجميلة سلمى (شيريهان)، الذي يمكننا القول إنها غزلت شباكها ليقع أحمد في حبها، فقد رأت فيه الرجل الأمثل، كما رأت فيه تحقيقًا لأنوثتها، وفي الوقت الذي يدعو فيه أهل القرية والدتها للانتحار بسبب ممارستها الجنس مع رجل غريب والحمل منه، تقف سلمى أمام المرآة، تسأل الجميع في خيالها، من يستطيع تحمل الاحتياج؟ ومن يمنع الجسد عن ممارسة حقوقه؟
فيلم الساحر.. تحرر أم خطيئة؟
هذه المرة وآخر إهداءاته، جاءت إلى "سعاد حسني وصلاح جاهين، وبهجة البسطاء"، وبالتعاون مع سامي السيوي، خاض رضوان الكاشف مغامرته السينمائية الجديدة والساحرة، من بطولة محمود عبدالعزيز وسلوى خطاب وجميل راتب ومنّة شلبي وساري النجار، وغيرهم.
ويستعرض رضوان الكاشف خلال فيلم الساحر قصة حياة أناس بسطاء في مصر القديمة بالقاهرة -يُقدم له إهداءً خاصًا في نهاية الفيلم- حيث ساحر يُدعى منصور بهجت (محمود عبدالعزيز) أرمل كف عن ممارسة السحر على خلفية أزمات نفسية خارجة عن إرادته رغم حبه للسحر، الذي يظل يردد طوال الفيلم: "أنا أصلي قلبي خفيف، أحب أعدّي ع النكد كده خطف، أنا أصلي مليش في النكد".
يحب أصدقاءه جدًا ويشاركهم كل تفاصيل حياته، فرغم كل مشاكله نجده يقول: "عارفة يا شوقية أنا اتمنيت إيه دلوقتي؟ اتمنيت يبقى عندي فلوس كتيرة، وأشتري الحصان لعم إبراهيم". أيضًا كان شديد الخوف على ابنته الصغيرة المراهقة (منّة شلبي)، ذلك الخوف الشديد يدفعه الى حبسها في المنزل والتشديد في تربيتها، ولا يحوّل شعور الخوف الملازم للبطل من الحياة وتقلباتها بسبب إمرأة (ابنته) إلّا إمرأة أخرى، فتقودنا الأحداث إلى سيدة مطلقة (سلوى خطاب) تعمل مزينة عرائس مع ابنها الذي يشكو من ضعف النظر.
في أحد مشاهد فيلم الساحر تنظر منة شلبي في المرآة نظرة فتاة حبيسة جسدها المكبوت الذي لا تستطيع التصرف فيه
تأتي هذه السيدة لتقيم في المنزل نفسه الذي يقيم فيه الساحر. تبدأ مشاعره تجاهها بالخوف أيضًا، الخوف من تحرر بنته الصغيرة، والقلق الذي تسببه معرفة أعزب لأي امرأة جميلة ووحيدة. ينتهي الأمر بأن يقع في غرامها في الوقت الذي ينجح فيه بخداع رجل أعمال (جميل راتب)، ليتمكن من نزع نظر الطفل مرة أخرى لحياته وحبه الجديد، لكنه يجد أن ابنته على علاقة مع حفيد المليونير "ميكا"، فيسعى إلى إنقاذها ليزوّجها من ابن حيّها الشاب البسيط (سري النجار). خوفه الشديد على ابنته لا يدفعه إلى الخوف من العالم كله، فالخوف الشديد في داخله يعادله حبه الكبير للناس، "وهو ينتصر في النهاية لهذا الحب" كما يقول الكاتب.
اقرأ/ي أيضًا: الجنس والدين في السينما المغربية.. تابوهات غير مسكوت عنها
في أحد مشاهد الفيلم، في الدقيقة 16 بالتحديد، وأثناء ظهور البطلة المراهقة، وسبب الخوف الأصيل داخل الساحر وهي تنظر إلى نفسها وجسدها في المرآة، يمكن أن نفهم الكثير، حيث فتاة تنظر إلى جسدها كسجينة لا تستطيع التصرّف فيه، لتعبر هنا عن الجميع، سواء والدها الذي يبحث عن زوجة طوال الوقت أو خطيبها الذي يختلس النظرات والقبلات منها حتى يتم الزواج.
كانت بمثابة نظرة احتياج جماعية في عيون المراهقة، يقتلها الفقر وقلة الحيلة، وتخالطها مشاعر جموح وانطلاق وحلم بتحقيق رغبات الجسد المكبوتة، وأمنيات التحرر والحب خارج الجدران الأربعة. من هنا نفهم جيدًا كلمتها حين تقول: "أنا هوايتي أغفّل (أخادع) بابا وأخرج، حتى لو عشان أمشي في الشارع لوحدي"، تعبيرًا عن أمنيتها في التحرر كهدف في حد ذاته، ليس حبًا في خطيبها أو خيانته مع ابن المليونير. الخروج من الجدران الأربعة، كان الكنز الذي تبحث عنه الفتاة في المرآة.
النهاية
انتهى مشوار رضوان الكاشف في الخامس من حزيران/يونيو عام 2002، وهو في الخمسينات من عمره، بسبب أزمة قلبية بعد عودته من مهرجان روتردام في هولندا، الذي شارك فيه بفيلمه الأخير "الساحر".
ظل رضوان الكاشف طوال حياته يردد: "أفلامي لازم تشبهني"، وكان يقول أيضًا: "ما أبحث عنه في اللغة السينمائية، هو أن تكون لغة قريبة إلى ثقافتي وإلى روحي وقلبي، ولست الوحيد الذي يملك الشعور بالطبع"، مُوضحًا: "فهذه الحارة في ليه يا بنفسج، التي يعيش أهلها مفتوحة حياتهم على بعضهم البعض، هي ذاتها العمارة السكنية التي نشأت فيها، وأكاد مع كل مشهد في هذا الفيلم أن أقول إني أعرف هؤلاء الناس، وأنني خبرت حكاياتهم، حتى وإن لم أحتك بها مباشرة".
وفي فيلم الساحر يتكرر الأمر كما قال رضوان الكاشف: "الحياة في فيلم الساحر فيها من الأصالة إلى درجة تجعل المُشاهد، أي مُشاهد، يتماهى معها من دون أن يشعر بغرابة ما يطرحه مهما بدا مدهشًا، لأنها تصنع واقعًا يقبل الإنسان بتقلباته كبريء مظلوم ومذنب كامل الإدانة في الوقت نفسه".
آمن الكاشف بكل ما أنتجه من أعمال فنية سينمائية، رغم قلتها، إذ كان يقول دائمًا: "أفلامي لازم تشبهني"
إذن، آمن رضوان الكاشف بما أنتجه، رغم قلته، على مدار 18 عامًا أخرج خلالها سبعة أفلام، ثلاثة تسجيلية هي: "الحياة اليومية لبائع متجول" و"الورشة" و"نساء من الزمن الصعب". مشواره جعل من السينما مرآة لنا وعلينا، جميلة بما يكفي لجسد امرأة جميلة، وحالمة كخيال فتاة تنتظر فتى أحلامها داخل عيونها، ومسكينة تحيطها أربعة جدران فقيرة من كل جانب.
اقرأ/ي أيضًا:
داوود عبد السيد بين "يوسف" الكيت كات و"يحيى" رسائل البحر
سينما الممثل أم سينما المخرج.. صراع طويل خاضته السينما المصرية