لا يوجد أسوأ من تعامل الحكومة المصرية مع قضية فلسطين إلا تعامل السينما المصرية خاصة الحديثة منها مع نفس القضية. ورغم الارتباط بين القضيتين المصرية والفلسطينية واندماجهما في مقولات تاريخية من عينة "فلسطين قضية مصرية"، ورغم الحروب المتعددة والمراحل التي مرّت بها العلاقة بين الشعبين، إلا أن أثر كل ذلك على السينما المصرية كان ضئيلًا بدرجة مذهلة.
فعلى مدار تاريخ السينما المصرية ومن بين آلاف الأفلام الممثلة للتيار الرئيسي لتلك السينما، لم يتم تناول قضية فلسطين سوى في عدد محدود للغاية من التجارب، ومعظمه تناولها بشكل ربما كان عدمه أفضل.
التجربتان الأفضل على الإطلاق هما "باب الشمس" للمخرج يسري نصر الله، المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم للأديب اللبناني "إلياس خوري، و"ناجي العلي" للمخرج عاطف الطيب.
من المفارقات أن باب الشمس الذي اختارته مجلة تايم من بين أفضل 10 أفلام أنتجت عام 2004، لم يجد منتجًا مصريًا يتحمس لتمويل إنتاجه
ومن المفارقات أن "باب الشمس" الذي اختارته مجلة "تايم" الأمريكية من بين أفضل 10 أفلام أُنتجت في عام 2004، لم يجد منتجًا مصريًا يتحمس لتمويل إنتاجه، وتم تمويله من قبل المنتج الفرنسي الراحل "أمبير بلزان" الذي أنتج أفلام نصر الله السابقة "المدينة" و"مرسيدس"، بالإضافة إلى بعض أفلام أستاذه يوسف شاهين.
أما فيلم "ناجي العلي" الذي أُنتج في بدايات التسعينيات وفي فترة شهدت توترًا في العلاقات العربية عقب حرب الخليج الثانية، فقد شنّت الصحف الحكومية المصرية حملة تشويه ضخمة ضده وضد مخرجه وضد بطله نور الشريف، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى شخص "ناجي العلي" نفسه، حيث قرر زعيم الهجوم، إبراهيم سعدة رئيس مجلس إدارة دار أخبار اليوم الأسبق، فجأة أن ناجي العلي كان يكره مصر ويشتمها.
كل ذلك لأن الفنان الفلسطيني العظيم انتقد الرئيس الراحل أنور السادات في بعض رسوماته. وقد بلغت درجة شراسة الحملة درجة أن نور الشريف ظل طيلة ما تبقى من عمره نادمًا على قيامه بهذا الدور!
باستثناء التجربتين السابقتين، لم تقدم السينما المصرية تقريبًا أفلامًا موضوعها الأساسي القضية الفلسطينية، رغم أن اهتمامها بفلسطين بدأ مع النكبة، عندما أنتجت عزيزة أمير عام 1948 فيلمًا من بطولة وإخراج محمود ذو الفقار بعنوان "فتاة من فلسطين" وأتبعته نفس المنتجة في العام التالي بفيلم "نادية" للمخرج فطين عبد الوهاب، ثم قدم نيازي مصطفى "أرض الأبطال" عام 1953.
والأفلام الثلاثة تتناول قضية فلسطين "كذريعة لتلفيق قصص حب بائسة تزيد الحرب من ميلودراميتها الفاقعة"، بحسب ما يقول الباحث الفلسطيني بشار إبراهيم في كتابه "فلسطين في السينما العربية". فلا تحمل تلك الأفلام إلا قيمة تاريخية تسجّل بداية اهتمام السينما بالنكبة الفلسطينية فلسطين، ثم التطورات اللاحقة كما نرى في قضية "الأسلحة الفاسدة" وتسببها في خسارة حرب 1948 التي يقدمها المخرج أحمد بدر خان في فيلم "الله معنا"، حيث يكتشف البطل الضابط (عماد حمدي) الذي ينفجر فيه السلاح أن والد حبيبته هو أحد المستوردين لتلك الأسلحة.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Borrowed time".. تعميم الرسوم المتحركة
أما المخرج كمال الشيخ فيتقدم خطوة إضافية عام 1957 من خلال فيلمه "أرض السلام" الذي يختفي فيه فدائي مصري (عمر الشريف) داخل الأراضي الفلسطينية لينفذ عملية فدائية بالتعاون مع فتاة فلسطينية جميلة (فاتن حمامة)، ثم يعودان معًا إلى مصر حتى يتزوجا ويعيشا في تبات ونبات!
وكما يوضح بشار إبراهيم في كتابه المشار إليه فإن السينما السورية والمصرية كانتا صاحبتي الريادة في تناول القضية الفلسطينية، مع الإشارة إلى أفضلية التجارب السورية في هذا المجال، حيث إن فلسطين كانت حاضرة في الكثير من أعمالهم السينمائية والدراما التلفزيونية قديمًا وحديثًا، كما اختلفت السينما السورية عن السينما المصرية في رؤية نكبة فلسطين، فالأخيرة قدمت صورة نمطية في كثير من أفلامها، أما السينما السورية فقدمت عدة أفلام مهمة تليق بالحدث.
ورغم تغير النظرة النمطية لفسلطين في الأفلام السورية، وقتذاك، مع ظهور تيار سينمائي جديد حاول إحداث تغيير حقيقي رافض للسينما التجارية السائدة عقب نكسة 1967 كان من نتائجه أفلام مثل "الظلال في الجانب الآخر" لغالب شعث عام 1975، إلا أن فلسطين اختفت كقضية في حد ذاتها عن السينما المصرية تمامًا، ولم تعد ترد إلا كشيء عابر تفصيلي في الأفلام التي تتناول الصراع المصري-الإسرائيلي خاصة بعد هزيمة 1967.
السينما السورية والمصرية كانتا صاحبتي الريادة في تناول القضية الفلسطينية، مع الإشارة إلى أفضلية التجارب السورية في هذا المجال
وهي أفلام قليلة بدورها بل إن معظم الأفلام التي تناولت حرب أكتوبر 1973 مارست نفس التقليد القديم وجعلت الحرب مجرد خلفية ساخنة لقصص حب ملتهبة، فكان طبيعيًا أن تتقلّص مساحة فلسطين على الشاشة خاصة بعد اتفاقيات السلام المشتركة مع إسرائيل.
اقرأ/ي أيضًا: التقدم حقيقة عالمية
يستثنى من ذلك فيلم "المخـدوعون" للمخرج توفيق صالح والذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما في سوريا عام 1972، والذي ربما يكون اعتباره فيلمًا مصريًا أمرًا مغرقًا في التجاوز، نظرًا لأنه فيما عدا جنسية مخرجه فمن الصعب العثور فيه على أي شيء مصري تقريبًا.
"المخدوعون" مقتبس عن رواية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني "رجال في الشمس" وبطولة مجموعة من الممثلين السوريين ويعتبر من أهم مائة فيلم في تاريخ السينما العربية، ويتناول آثار نكبة 1948 من خلال ثلاث شخصيات من أجيال مختلفة بظروف مختلفة، لا يجمعهم شيء سوى محاولتهم الوصول إلى الكويت للبحث عن حياة أفضل بعد أن شردهم الاحتلال الإسرائيلي خارج أراضيهم، ثم يلتقون ويتفقون مع سائق شاحنة على تهريبهم من العراق إلى الكويت عبر الطريق الصحراوي، ولكنهم يموتون دون غايتهم قبيل بلوغ الهدف.
ومن نافل القول إن "المخدوعون" مثّل علامة فارقة في مقاربة السينما العربية للقضية الفلسطينية من خلال تحويل رؤية كاتب ثائر مثل كنفاني إلى عمل سينمائي إنساني يستفيد من خصوبة وثراء المأساة الفلسطينية لتقديم رؤية إبداعية لا تقتفي أثر الخطابة والميلودراما المبتذلة.
وبعيدًا عن الإشارة إلى قيام "نجمة الجماهير" نادية الجندي ببطولة عدد من الأفلام "الاستخبارتية" استعرضت فيها قدراتها كممثلة أكشن وامرأة جذّابة يتهافت عليها رجال الموساد في أفلام من نوعية "48 ساعة في إسرائيل" أو "مهمة في تل أبيب"، فقد شهدت أواخر التسعينيات عودة فلسطين مرة أخرى إلى الشاشة المصرية من خلال فيلم "صعيدي في الجامعة الأمريكية" من إنتاج شركة "العدل جروب" وتأليف مدحت العدل وإخراج سعيد حامد.
فاحتوى الفيلم على أول مشهد لحرق علم إسرائيل في السينما المصرية بعد اتفاقية كامب ديفيد، وهو الأمر الذي لفت انتباه كثيرين في حينها رغم أن المشهد نفسه كان مفتعلًا وجاء في نهاية الفيلم، ولكن جاذبية "حرق العلم الإسرائيلي في فناء الجامعة الأمريكية بالقاهرة" كانت عاملًا حاسمًا في الثناء الكبير الذي لاقاه محمد هنيدي ومدحت العدل نتيجة هذا الفعل الذي عُدّ بطوليًا!
في العام ذاته، بدا وكأن آل العدل حصلوا على توكيل فلسطين في الفن المصري، فكتب مدحت العدل الأوبريت الغنائي الشهير "الحلم العربي" الذي يركز في جزء منه على قضية فلسطين بعبارات حماسية وغنائية تستشرف مستقبلًا واعدًا وخاليًا من الاحتلال.
اقرأ/ي أيضًا: نزهة في الغابة.. مغامرة عجوز لا تعيد شباب الحكاية
في 2002 ومع اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عادت "العدل جروب" للعب على وتر القضية الفلسطينية وأنتجت فيلم "جاءنا البيان التالي" لنفس المخرج ونفس الممثل الرئيسي، الذي احتوى بدوره على مشهد للمراسل التلفزيوني (محمد هنيدي) يشارك أطفال الحجارة رجم الجنود الإسرائيليين، ومرة أخرى أثار المشهد إعجاب الجمهور كما حدث مع مشهد حرق العلم.
"المخدوعون" مثّل علامة فارقة في مقاربة السينما العربية للقضية الفلسطينية من خلال تحويل رؤية كاتب ثائر مثل كنفاني إلى عمل سينمائي
ويبدو أن الشركة وجدت الموضوع مجديًا جماهيريًا واقتصاديًا فقدّمت شخصية الفدائي الفلسطيني (عمرو واكد) في فيلم "أصحاب ولا بيزنس" للمخرج علي إدريس حيث يقوم الفدائي بتفجير نفسه في حاجز أمني إسرائيلي بالضفة الغربية، وهو الحدث الذي سيتسبب في تحوّل مذيعين مصريين شابين يقدّمان برنامج مسابقات تافه في فلسطين (هاني سلامة ومصطفى قمر) إلى شخصين ملتزمين وجادين يقفان جنبًا إلى جنب مع شباب الانتفاضة ويلقون الأحجار في وجه جنود العدو الإسرائيلي!
ورغم سطحية سيناريو الفيلم واستغلاله الفجّ للقضية الفلسطينية وإقحامها عنوة داخل سياق أحداثه، إلا أن ذلك النهج ساعد في إكسابه جمهورًا عريضًا حينها، وهو أمر يبعث على تساؤلات كثيرة حول طبيعة اهتمام الجمهور المصري بالقضية الفلسطينية ومدى جديته في فهمها أو مقاربتها.
على كل حال، فإن اهتمام السينما المصرية بالشأن الخارجي كان دائمًا اهتمامًا محدودًا للغاية، بل إن تلك الندرة هي سمة الأفلام التي تتناول الأقاليم والمحافظات المصرية نفسها، فكيف الحال وقضية فلسطين ليست فقط شأنًا خارجيًا، بل إن طريقها وعر ومليء بالممنوعات الرقابية وتعليمات الأجهزة الأمنية وتغيّرات التحالفات والانحيازات الإقليمية.
اقرأ/ي أيضًا:
10 حقائق مثيرة عن ثلاثية أفلام العراب
بين فيلم Deepwater Horizon وفيلم sully