"بتذكُر يا قلبي لِما كنّا صغار
كيف كِنّا نتوجع ونغار
ومرّت الأيام ع الأيّام
حلوين كبروا.. ونحن صرنا كبار
كبروا يا قلبي وكلنا كبرنا!
وما عاد عنّا مين ينطرنا"
اليومَ أكبر وتتسعُ الهواجس وأستيقظُ في الليل خائفة أتحسّس لساني، وأنامُ مرعوبةً من أن أبتلعهُ من شدة الهَلعِ من فكرةِ الخوفِ، اليومَ يا أُمِّي عيدُ السياج، سياجٌ يفصلُ بيني وبينَ طفولتي ولُطفِ الليلِ فيني، اليومَ أبتعدُ خطواتٍ ويبني عمال بدون وجوه جسرًا يؤدي إلى ثلوجٍ أبدية، وإلى سفوحِ جبال وإلى غَرقٍ كثير. اليوم يَكثُرُ المهنئون ويرقص الأصدقاء وأُطفئُ شمعتي بدمعتي، أَي بالبكاء.
تقول صديقتي بحزم: انفخي، وأرُدُّ عليها بالدموع أصوُب وجهي من بعيد.. من فوقِ الشمعة وأسقطُ دمعة. تنطفئ بمرارة وحُزن ويغدو طَعمُ الحلوى زُعاق.
اليومَ تَنفذُ آخر حِجج قضيّة تسلّلي في الليل للاحتماء بظهرِ أُمِّي، اليوم تُبنى متاهةٌ اسمها التبريرُ الكاذب، اليومَ عيد آخر مشهد تمثيلي ناجِح، مشهدُ هروب الفتاةِ العنيدة من حِصّة الرسم. أتذكرُ يا أبي! جئتُكَ يومها، كان يومُ الثلاثاء الأول لي في المدرسةِ الثانوية، حينَ سألتني لماذا هربت من حصّة الرسم؟ أَجبتُكَ محاولةً إخفاءَ شقاوتي: طَيرٌ هَربَ من قَفصٍ مفتوحٍ في لوحة المعلمة.
اليوم ذكرى صراخ أُمِّي وبُكائي ذكرى أولُ الأيادِ المصافحات، ذكرى الأيادِ المُرعبات التي كانت تأكُلُ حجمي. اليوم ذكرى صديقي الحبلُ السري المتين جِسري إلى أمُي، كُنت أتدلى مِنهُ كمُفتاح، كانَ هو الميدالية، وكانت أُمِّي البيت.
اليومَ يومُ انتصار لص العُمر وآكل سنين البشر، واليوم تكبرُ أحلامي مرّةً وتَصغرُ ألفًا، أقتربُ من عُمركِ قليلًا فتكبُرين أكثر يا أُمِّي، نلعبُ تلكَ اللعبة منذُ سنين، ودائمًا نفشل، أخسرُ أنا فتحزنينَ أنتِ.
في هذا التاريخ، اليوم، أعرفُ الإجابات كلها، وتُمطرُ الدنيا عليَّ بأسئلةٍ غزيرة، اليومَ يَجرحُني ألا تَعود هُناكَ أسبابٌ مُقنعة لنومِ أُمِّي بجانبي وقتَ الهَلع، يجرحُني أن أصيرَ بارعةً في الكذب، وألا أسهو عن أحزانِ البيت، اليوم يطول عُمرُ عَربدةِ الليل ويَقصرُ بدورهِ عُمري. وأتقنُ السيرَ على روس أصابعي فوقَ الخيباتِ الكثيرة، لا تعود مشاجراتي مع أُختي كما كانت، ولا يُصدقُ أبي مرّةً أنّي كَبُرت.
لا هروب من الكَبرِ ما دُمنا نعيش، لا أحدَ يصغُرُ سوى بالموت، يعود المرء حينَ يموتُ طفلٌ صغيرٌ ليحاسب على أخطائه التي ارتكبها حينَ كَبُر.
هذا الكَبرُ الذي يجرحني، يجرحُني لأنهُ ذنبي الوحيدُ وأخطائي الفادحة.
سأظلُّ أنظرُ للكِبار على أنهم أبطالٌ متعبون. وزنُ خيالاتهم في الليل يُبكي لشدةِ ثُقله، سأظلُّ أنظر للكبارِ على أنهم متعبون، وعلى أنَّ ملامحهم تهترئ وظهورهم تَنحني كُلّما حَملوا عامًا آخر فوق ظهورهم. أَبي يَجرُّ 53 عامًا. آه يا مُتعَبُ، يا بطل الأبطال الذين هُم كِبارٌ أيضًا.
سأظلُّ أبكي كُلّما أضاءت شَمعةٌ وانطفأت، سأظلُّ في كُلِّ ليلةِ كهذه يرقصُ فيها الجميع على جثة وقتي، أُردد وأُعيدُ وأُردد وأُعيد: "بتذكر يا قلبي لِما كنّا صغار!! بتذكر يا قلبي".
اقرأ/ي أيضًا: