يشرح مقال نشرته وكالة بلومبيرغ، كيف أنّ تحركات ابن سلمان الأخيرة، ولو تم افتراض صحة مزاعم أنها في إطار مكافحة الفساد ولسد العجز في ميزانية الدولة؛ فلن تُؤتي أُكلها لأنها في أساسها فاسدة، وغالبًا مثل هذه التحركات لا تحدث إلا في الدول غير المتمتعة بسيادة القانون كجزءٍ من لعبة السلطة. السطور التالية ترجمة بتصرف لمقال بلومبيرغ.
تفيد التقارير بأن السلطات السعودية تقترح إطلاق سراح الأمراء والمسؤولين ورجال الأعمال المعتقلين تحت مزاعم "مكافحة الفساد"؛ مقابل تنازلهم عن 70% على الأقل من ثرواتهم، وهو نفس الأسلوب الذي استخدمته أنظمة ما بعد الاتحاد السوفيتي، خاصة جورجيا تحت قيادة ميخائيل ساكاشفيلي، وأيضًا في روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء قد يكون فعالًا بدرجةٍ ما في ملء خزائن الحكومة، لكن الأكيد أنه ليس مفيدًا لمؤسسات البلاد ومناخ الأعمال.
تكشف تقارير أنّ السلطات السعودية عرضت على الأمراء ورجال الأعمال المعتقلين إطلاق سراحهم مقابل تنازلهم عن 70% من ثرواتهم
وبلغ العجز في ميزانية السعودية 96.5 مليار دولار في عام 2015 (بسعر الصرف الحالي) و83 مليون دولار في العام الماضي، في الوقت الذي كافحت فيه من أجل الحصول على حصة في سوق النفط، في منافسة مع صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة، وحافظت على انخفاض أسعار النفط الخام.
اقرأ/ي أيضًا: "حرب العرش".. الأمير متعب و5 أمراء نقلوا إلى المستشفيات نتيجة التعذيب
وكان لولي العهد الأمير محمد بن سلمان دورًا أساسيًا في تغيير تلك السياسة إلى نظام خفض الإنتاج المفرط. والآن، يبدو أنه عازم على ما يُمكن تسميته سرقة ثروة المعتقلين، والتي قد تصل لـ100 مليار دولار، للاستفادة من بعضها على الأقل لسد العجز. وفي هذا السياق جدير بالذكر أن السعودية كانت قد أعطت للرئيس الأمريكي خلال زيارته الرياض، ما يُقدر بنحو 400 مليار دولار، قيل إنها بمثابة قرابين تزلّف للرئيس الذي سبق له أن صرح بكراهيته للسعوديين.
ميخائيل ساكاشفيلي، الذي تولى الرئاسة في دولة مفلسة إلى حد كبير عام 2004، وهي جورجيا، زعم محاربته الفساد لنفس الطريقة. ولكن لأنه لم يكن يتمتع بسلطات مطلقة، فقد دفع باتجاه تغيير في القانون الجنائي للبلاد، ليسمح بإجراء الصفقات مع القضاء لتفادي أي نوع من العقاب مقابل غرامة تفاوضية. وبحلول عام 2011، وقبل عام من خسارة حزب ميخائيل ساكاشفيلي للانتخابات البرلمانية، وخسارته لمعظم سلطاته، حُلت 80% من القضايا الجنائية بهذه الطريقة، وفقًا لتقرير مجلس أوروبا الذي أعده الدبلوماسي السويدي توماس هاماربرغ.
وردًا على التقرير، كشفت الحكومة الجورجية عن إحصاءات نادرة، ففي عام 2010 تلقت 112.7 مليون لاري (63 مليون دولار بسعر الصرف المتوسط لهذا العام) من اتفاقات الاستئناف والغرامات المفروضة من المحكمة. كان ذلك يعادل نحو 2% من الإنفاق الحكومي لذلك العام.
المشكلة في هذه الإجراءات أنها ليست شفافة، ويشوبها في نفسها فساد. سرد كاخا بيندوكيدزي، المفكر الذي وقف وراء إجراءات ميخائيل ساكاشفيلي، في كتاب ضم مقابلات الصحفي الأوكراني فلاديمير فيدورين، كيف تمكن مدير كلية زراعية، باع حيازات الأراضي الشاسعة للكلية بأسعار رمزية، من إقناع المدعين العامين بأنه لم يجمع الكثير من الثروة، وحصل على حريته مقابل مبالغ صغيرة دفعها للحكومة. وبعد بضعة أيام، رآه أحد المدعين العامين في متجر يشتري معطفًا بقيمة ثلاثة آلاف دولار، إلا أن فرصة ملاحقته قضائيًا كانت قد فاتت.
وكما هو متوقع، فقد أُسيء استخدام هذا النظام. وقال خصوم ميخائيل ساكاشفيلي إن الأصول صودرت لصالح شركائه ومن أجل تمويل صفقات ومكافأت غير شفافة. في الأساس، وفقًا لخصومه، يقال إن المدفوعات الرسمية بموجب اتفاق صفقة التفاوض كان يرافقها هدايا غير رسمية للمسؤولين ورشاوى.
لعل ابن سلمان يُحاول تكرار نموذجي ساكاشفيلي في جورجيا وبوتين في روسيا، لكن تحركاتهما ثبت أنها فاسدة من الأساس
وفي عام 2013، قام هاماربرغ -الذي كان قد حذر من احتمال إساءة استخدام هذا النظام- بزيارة جورجيا مرة أخرى. وأشار تقريره إلى أنه "بعد انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2012، وتشكيل حكومة جديدة، تقدم الآلاف من المواطنين بطلب إلى مكتب المدعي العام، مدعين أنهم خضعوا لضغوط وأجبروا على التفاوض". كما لاحظ الفريق العامل التابع للأمم المتحدة والمعني بالاحتجاز التعسفي، ووزارة الخارجية الأمريكية أيضًا، الجوانب المشؤومة للجهاز التفاوضي الجورجي.
اقرأ/ي أيضًا: اعتقالات الأمراء في السعودية.. كل شيء مباح لوصول "السفاح" للعرش
كانت حملة ميخائيل ساكاشفيلي لضمان تدفق الإيرادات للحكومة من الأشخاص الذين نهبوا البلاد في الأساس، تشبه ما فعله بوتين في روسيا خلال ولايته الأولى في السلطة، في أوائل الألفية. وفي حين رفض بوتين علنًا إعادة النظر في الخصخصة الفاسدة في التسعينيات، إلا أنه استعاد أصول النفط والغاز القيمة للدولة الروسية، وسجن عملاق النفط ميخائيل خودوركوفسكي واستولى على الإمبراطورية الإعلامية التي كان يمتلكها فلاديمير غوسينسكي، التي بناها بالقروض الحكومية التي لم يتمكن غوسينسكي من سدادها. بعض الشخصيات العامة والمديرين التنفيذيين ورجال الأعمال سجنوا لبعض الوقت، بينما صادرت الدولة ثرواتهم. استخدم بوتين القوانين القائمة بشكل انتقائي للضغط واحتجاز الرهائن ومصادرة الممتلكات.
وانتهى الحال بهذه الأموال، التي أصبحت خاضعة لإشراف الدولة، بالاستيلاء عليها من قبل رجال بوتين وتمويل مشاريع خارج الميزانية. على سبيل المثال، يمتلك كيريل شامالوف، وهو زوج إحدى ابنتي بوتين، حصة في إحدى الأصول المصادرة، وهي شركة سايبور العملاقة للبتروكيماويات، بعد أن حصل عليها بقرض كبير من بنك يسيطر عليه أشخاص مقربون من الرئيس.
وعلى غرار إجراءات ميخائيل ساكاشفيلي وبوتين، فإن الحملة التي ينفذها ابن سلمان قد تحصد في البداية بعض الآراء الإيجابية، لكن ذلك لن يطول عندما ينكشف عوارها.
لقد كانت المملكة العربية السعودية فاسدة تمامًا لعدة عقود، ومعظم الناس الذين جمعوا ثرواتهم بها يمكن اتهامهم بارتكاب بعض المخالفات. لكن الأساليب غير القضائية لمحاربة الفساد، أينما استخدمت، عادة ما تؤجج المزيد من الكسب غير المشروع. فهي في نهاية المطاف، تعمل على إعادة توزيع المال من الخاسرين سياسيًا إلى الفائزين. وبما أن "الدنيا دوّارة"، فعلى الفائزين أن يعدوا أنفسهم لجولة أخرى من المصادرة بحقهم، كما يجب على المستثمرين أن يراعوا ذلك. إن حملات التطهير وحملات استرداد الثروات هذه لا تبشر بالخير بالنسبة لهم أيضًا، فهي تشير إلى بيئة مؤسسية ضعيفة، مع ضمانات قليلة بخلاف العلاقات السياسية، التي قد لا تستمر.
لا ينبغي توهم أنا تحركات ابن سلمان محاولة إصلاحية، فهي في النهاية لعبة سلطوية تحدث غالبًا في البلدان التي لا يسود فيها القانون
من الضروري ألا يتوهم أحد في تحركات محمد بن سلمان ويعتبرها محاولة إصلاحية، ففي النهاية هذه لعبة السلطة التي تتكرر غالبًا في البلدان التي لا تتمتع بسيادة القانون، وهذه التحركات ليست إلا عرضًا للمرض الأساسي في السعودية، وليست كما يُحاول ابن سلمان وحاشيته الترويج لكونها علامة على "النقاهة".
اقرأ/ي أيضًا:
انهيار أسهم وقلق مستثمرين.. حملة الاعتقالات السعودية تحدث هزة اقتصادية
هل تصمد مزاعم محاربة الفساد أمام بذخ ابن سلمان وهدر المال العام؟