ألترا صوت - فريق التحرير
تصدر خلال أيام، عن "منشورات المتوسط"، رواية "فاكهة للغربان" للكاتب اليمني أحمد زين. الرواية تروى من خلال صلاح، المناضلُ اليساريُّ، الذي يكتب مذكِّرات زوجةِ رئيسهِ السَّابق، في الدائرة الحزبية التي كان يعمل فيها؛ بعدَ شهورٍ من اختفائه.
أحمد زين روائي وصحافي يمني. صدرت له مجموعتان قصصيتان: "أسلاك تصطخب" و"كمن يهش ظلًا"، وأربع روايات: "تصحيح وضع" و"قهوة أمريكية" و"حرب تحت الجلد" و"ستيمر بوينت". هنا مقطع من الرواية الجديدة.
مذكّرات، أريدكَ أن تكتب لي. باحت أخيرًا بما تريده منه. في الأثناء أخذت تراقب غرابًا يمضي وقته في افتعال حركات مرحة، وراء الشباك الحديدية للنافذة، فيما بقي صلاح يجهد في فَهْم ما تفوَّهتْ به، وبدا مثل مَنْ يلج متاهة معصوب العينَيْن، وتأخذ أنفاسه تضيق. وتساءل في سرِّه، إن كان هذا ما أرادتْهُ منه، حين سعت للبحث عنه بالاسم، ثمَّ تردَّد طويلًا قبل أن يعزم أمره ويأتي إليها. كانت قد طلبت من الرجل الذي كأنَّما لم يعش بينهم، أن يرسل إليها شخصًا مقبولًا وغير ثرثار. مقبول، معناها أن تقدر على احتماله، أمَّا الصفة الأخرى، فتعني أنه لن يتحدَّث عمَّا يواجهه عندها.
لكنني أجد نفسي غير ملائم... ولم يستطع أن يُكمل. أراد أن يُفهمَها أنه يجهل تمامًا هذا النوع من المهامّ، وأنه لو كان يعرف سلفًا أن جياب اقترح اسمه عليها لهذا السبب، لما تردَّد في الاعتذار رغم صعوبة ذلك، فهو إن كان قبل وذهب إليها، فلأنه عدَّ ذلك نوعًا من الوفاء لرئيسه السابق، في الدائرة التي يعمل بها. وكانت مرَّت شهور على اختفائه.
"شعبي الحبيب"، هكذا كان يبدأ خطاباته التي يرتجلها، كما لو كان زعيمًا، بوجهه الوسيم وإطلالته الجميلة. يُنصت لها تتكلَّم عن جياب فيما تروح تتأمَّل صورة له، يجلس فيها فوق الأرض، قدَّامه أوراق وما يشبه تقارير، دون أدنى اعتبار لمحاولته التَّملُّص من المهمَّة التي تريد منه تولِّيها. عندما يبدأ الكلام، أضافت بصوت بارد، يكون كَمَنْ يجهد في سماع صوته، ينطلق كلامه كأنَّما من غير نقطة معيَّنة، حتَّى يقبض تدريجيًّا على صوته. يعشق هو صوته ويدرك كم أنه يتغلغل في صميم الجماهير، ويؤثِّر فيها. أفكِّر اليوم أنهم لم يتركوا له فُسْحَة من الوقت، ليُناور. هو حتَّى لم يرَ كيف أصبحت قَدَمَاي. تحني ظهرها الآن، وتغرز أصابع يَدَيْها بشدَّة أسفل ركبَتَيْها، وتدفعهما للانزلاق أكثر. لشدّ ما يعكِّر حياتها ويزيد في ألمها، تصوُّر أنها لن تراه ثانية.
يستنشق صلاح رائحة عطر، كان قد تبادر إلى ذهنه بعد زيارَتَيْن تقريبًا، أنها تحبُّ أن تُبقي نفسها مغمورة بروائح زكية. ثمَّ يسمعها تسأله إن كان كابد بعضًا من تلك السنوات القلقة؟ ولمَّا لم يُجبْها بلا أو نعم، لأنه كان يجهل عمَّ تتكلَّم، راحت تقول إن الأعوام التي أعقبت الانتصار على الإنجليز، كانت تشبه كابوسًا رهيبًا بلا نهاية. كان زمنًا بين حربَيْن طاحنَتَيْن، الأولى ضدَّ الاستعمار، والثانية التي لا تزال مشتعلة ضدَّ بعضهم البعض. كانت البلاد كلها تصحو وتغفو على وقع الأناشيد الثَّوريَّة التي تُمجِّد الثُّوَّار. اللحظات تمرُّ بطيئة مشحونة بالتَّوتُّر والقلق. والجميع يتعجَّل تحقُّق الوعود للعبور إلى حياة الرفاه والحُرِّيَّة. دفعُونا أيَّامها لابتكار عروض في تبجيل الثورة وقياداتها. مَنْ لم يتوضَّح انتماؤه للجبهة القومية أو جبهة التحرير، عاش منبوذًا من الطَّرَفَيْن. ثمَّ ما لبث أن هيمنت الجبهة القومية، وتفشَّت الوشاية، وانتشر كُتَّاب التقارير.
مدرسة كاسترو، مدرسة سالمين، مدرسة لينين، مدرسة بدر، مدرسة النجمة الحمراء. معهد باذيب للاشتراكية العلمية. اتِّحاد شباب اليمن الدِّيمقراطيّ. معهد النقابات العمَّاليَّة. صوت نوال تتلو التقرير الشَّهريَّ، نهار اليوم، يكتسح الآن ما تتفوَّه به نورا، يستعيده بلا سبب واضح. لم يُلزِم صلاح نفسه بتتبُّع المدارس والمعاهد مدرسة مدرسة ومعهدًا معهدًا، وما استجدَّ في وظائفها ومهامِّها أو كم بلغ عدد الملتحقين بها. أعطى نفسه فُسْحَة، ليتأمَّل هذا الصوت الرقيق، تخالطه بُحَّة خفيفة، وحسرة لم تتلاشَ، رغم أن حادثة الطائرة التي تفجَّرت وهي في طريقها إلى إحدى المُدُن، وقُتل كل مَنْ فيها من خبراء ودبلوماسيِّيْن، مرَّ عليها وقت طويل. ونظر مباشرة في وجهها، كَمَنْ يراه لأوَّل مرَّة، أبيض بمكياج خفيف، وشَعْرها كثيف، يشقُّه خطٌّ في المنتصف، بينما تلبس جاكيتًا زهريًّا من قماش خفيف، على بلوزة بياقة بيضاوية، وتنُّورة تنتهي فوق الركبة تمامًا. تجلس نوال، وتتَّكئ بمَرفِقها الأيمن على حافَّة المكتب، وتمسك بالأوراق، وكلَّما انتهت من ورقة، وضعتْها جانبًا.
اختلس صلاح نظرات أخرى إلى وجه نوال، وبدت له، على العكس من أيِّ يوم آخر، مثالًا للأرملة التي تطوِّق نفسها بمشاعر ملتبسة. عرف باكرًا أنه غير قادر على التعامل معها، بلا تلك الصفة التي التصقت بها: أرملة رجل قُتل في حادثة الطائرة التي ما يزال الغموض يلفُّها.
حين انتهت من قراءة التقرير، جمعت أوراقه، وبينما أصابعها تتحسَّس الملمس الكرتوني للملفِّ، الذي أخرجت منه الأوراق، سألتْهُ إن كان يريد أن تُسلِّمه نسخة منه أم تأخذها معها؟ بقي صامتًا، كأنَّما لم يُرد أن يخدش جلال اللحظة، التي صنعها حضور هذه المرأة، التي لا يراها كثيرًا، وطالما عبَّرت في تصرُّفاتها ومواقفها، عن هدوء لا مثيل له في مواجهة ما يجري، بين حين وآخر، من صراع. أخيرًا، اكتفى بمدِّ يده باتِّجاهها، فناولتْهُ التقرير، ومضت عائدة إلى مكتبها.
لم تفه نورا بكلمة واحدة زيادة على ما قالتْهُ عن تلك المهمَّة، كما لو أن أمر كتابة تلك المذكّرات حُسم، بمجرَّد ما كشفت عنه. وبقي صوتها يتردَّد في مسامعه، يتغلَّب على الموسيقى التي تسمعها، وجال في باله أنه يخصُّ امرأة، تفقد تدريجيًّا المعنى لحياتها. يرى المنزل يغرق في إضاءة شحيحة، وأراد الرحيل، لكنْ، لم يظهر عليها أنها ستسمح له. نهضت من كرسيِّها، وأخذت تتمايل بمشقَّة إلى النافذة، وأسدلت الستارة بحركة واحدة خشنة من يدها. لم تعد تحبُّ هذه اللحظة من النهار. ترتدي ثوبًا فضفاضًا بكُمَّيْن طويلَيْن، فيما ظهر شَعْرها منفوشًا بصورة مغوية. خدَّاها منتفخان قليلًا، وشفتاها كذلك، أمَّا عيناها، فعليهما آثار نوم.
وهي تعود إلى مقعدها، لفَّتْها ضوضاء تأتيها من بعيد، عابرة زمنًا ما عاد ممكنًا تركه وراء ظهرها، إذ يوجد في حياتها اليوم ما يضغط عليها لتتذكَّره، من مقهى كانوا يجلسون في شرفته، التي تطلُّ على ساحل أبين، ويراقبون الشمس تغطس في بركة من اللهب الأحمر. من الشاطئ خلف بناية قولد مور، تراها تضرب بأطراف أصابعها الرمل الناعم، يلتصق بجسدها المبتلّ، الخارج لتوِّه من البحر، قبل أن تجلس وتلفَّه بمنشفة وردية، لها وبر غزير، وتجفِّف شَعْرها بطرف منها، فيما تنظر إلى أجساد شبه عارية، لأوروبيات وأوروبيِّيْن، تسحب نفسها أيضًا من المياه الزرقاء المنعشة، بعد سباحة طويلة، استعدادًا لسهرة عاصفة. من رصيف أمير ويلز، حيث أعمدة الإضاءة تترك أنوارًا رائقة، تخفِّف قليلًا من البخار الساخن لبقايا نهار جحيمي، وحيث تسير خلال طريق أُحاديٍّ عربات مكشوفة، وتظهر فتيات بصدور وأذرع عارية، تلمع في الليل بالفتنة. يبتاعون الآيس كريم في شكل كرات ملوَّنة، ثمَّ يجلسون في مواجهة الميناء، يتلذَّذون بمذاقه ونكهاته المتنوِّعة، ويتفرَّجون على سفينة عملاقة تتوهَّج من بعيد، مثل كوكب عائم. وخلال الأضواء التي تغمرها، يلمحون سيَّاحًا، يهبطون منها، ثمَّ يصعدون قوارب صغيرة، تنقلهم إلى الرصيف، ليتيهوا في داخل المدينة وليلها.
اقرأ/ي أيضًا: