حين التحقت بإعدادية الشّهيد محمّد بلغربي في مدينة برج بوعريريج عام 1990، أثار انتباهي تمثال برونزي لطفل عارٍ يحمل سمكة. كان عمري، أيّامئذ، سبعة عشر عامًا. وكنت مثقوبًا بعقدة لازمتني منذ سنواتي الأولى هي عقدة افتقادي لأخ صغير. فأنا وحيد أمّي وأبي، وهو ما برمجني على شغف البحث عن أخ صغير لي إلى غاية اليوم. هل هذا ما يفسّر العمق الذي يميّز علاقتي ببناتي الثّلاث، حتى أنني جعلت من تلك العلاقة منصّة لكتابة نصوص ويوميات صدر بعضها في كتاب؟ ويفسّر كون معظم أصدقائي اليوم أصغرَ منّي بنصف سنّي؟
لطالما كان اهتمام أمّي بأن يكون لي أخ صغير، لأنّها لمست ولعي بذلك في يومياتي وليلياتي، من ذلك أنني كنت أصطحب معي، وهو اصطحاب في حكم السّرقة، كلّ طفل صغير إلى البيت، أكثر من اهتمامها بوجودي.
مرّةً.. صادفت ابن خالي أسامة يلعب وحده. فحملته إلى البيت في ظلّ غياب أمّي عنه، وأخفيته في غرفة مهجورة، بعد أن أعطيته كلّ ما توفّر لي من تمر وخرّوب وعسل وبرتقال وحلوى، إذ كانت جدّتي لأمّي لا تأكل نصيبها من هذا لأجلي. ملأ الصّبي بطنه وأسلم نفسه لنومة عميقة، تمنّيت ألّا تنتهي حتى يبقى في حوزتي. إذ كنت مستعدًّا لأن أعيش من أجله. هنا، أبادر إلى القول إنّ هذا لمقام هو ما جعلني أبغض مبكّرًا عبارة/ منطق "أموت من أجلك" سواء تعلّق الأمر بوطن أو إنسان، وأفضّل عليها عبارة/ منطق "أعيش من أجلك".
عادت أمّي مذعورة إلى البيت، وراحت تبحث في جنابته عن أسامة.
ـ هل رأيت ولد خالك؟
لقد كانت من المرّات الأولى التّي استمتعت فيها بممارسة فعل الكذب. لماذا لا نكتب عن تجاربنا الأولى في ذلك؟ لماذا لم تتذكّر أمّي عقدة الأخ الصّغير لدي وتدرك أنّني كذبت عليها؟ لماذا لم أدرك استحالة أن أخفي طفلًا إلى الأبد، فأبادر إلى اصطحابها إلى مرقده؟ لماذا غطّ الصّبي في النّوم ساعتين كاملتين كانتا كافيتين لاستنفار القرية كلّها بحثًا عنه؟ لماذا لم يرحمني أبي بعد أن اكتشف أمري؟ قال إنّه يجب عليّ أن أتصالح مع وضعي، "وإلّا عليك أن تنحت أخًا من طين".
سمّيت الصّبي، الذي يحتضن السّمكة "وليد". لا أذكر خلفية الاسم، لكنّني أذكر الأحاديث التي دارت بيننا في الليالي، التي كانت تفوتني فيها الحافلة الوحيدة إلى قريتي "أولاد جحيش" عشية الخميس، حيث كانوا يُسرّحوننا من النّظام الدّاخلي. (ذكرت بعض ذلك في كتابي يدان لثلاث بنات، ويليه: بوصلة التيه)، فأضطرّ إلى المبيت في العراء، قبل أن يصبح لي أصدقاء في المدينة.
ذات مسيرة حاشدة لأنصار "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، همّ فتية ملتحون بتحطيم "وليد". ومن حظّه أنني كنت قربه، فحُلْتُ بينه وبينهم، لكنهم كانوا سيتغلّبون عليّ، لأنني كنت ضعيفًا في الجسد وهمّة الشّجار، لولا أن مؤذّن مسجد بومزراق رفع عقيرته. فاستجابوا له وتركوا أخي الصّغير.
بعد ثمانية وعشرين عامًا، عدت إليه يوم 09 أيّار/مايو الجاري، فوجدته وفيًّا لسمكته وطفولته. تمامًا كما بقيت أنا وفيًّا لخياري: أن أكون كاتبًا. وفي نصّ قادم، سيخرج وليد عن صمته، ويبوح لي بيومياته ومشاهداته وذكرياته وتأمّلاته. لقد وعدني بذلك.
اقرأ/ي أيضًا: