في السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 1923، نشر الكاتب والصحفي الفلسطيني خليل السكاكيني (1878 – 1953) مقالًا في جريدة "السياسة" بعنوان "تطور اللغة في لفظها وأساليبها"، الذي استعرض فيه مراحل وخلفيات تطور بعض الألفاظ العربية في سوريا ومصر. وانتقد فيه أيضًا "المذهب القديم" في الكتابة، الذي يرى أن أصحابه يميلون إلى: "تكرار الكلام في غير موطن التكرار والإسراف في استعمال المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فهم لا يأتون بكلمة إلا أتبعوها بمرادفاتها".
يُنكر أرسلان في رده على حديث السكاكيني حول المذاهب القديمة والجديدة في الأدب، وجود مذهبٍ غير مذهب العرب الذي وصفه السكاكيني بـ "المذهب القديم"
يُعيد السكاكيني أسباب ميل أصحاب "المذهب القديم" إلى هذا النوع من الكتابة، إلى: "قلة البضاعة ونزارة المادة الفكرية". ويضيف موضحًا: "أصحاب هذا المذهب يحسبون أن اللغة هي كل شيء، فإذا حمل أحدهم على ظهر قلبه مقامات الحريري وديوان المحاسبة والمعلقات والمفضليات، فقد صار كاتبًا نحريرًا".
ويرى الصحفي الفلسطيني أن هذا النوع من الكتابة، بغض النظر عن أسبابه: "غير طبيعي، أو غير عربي، أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر". ويجادل بأنه: "إذا تفقدت كلام العرب في أشعارهم وأمثالهم وخطبهم ورسائلهم علمت أنهم يميلون إلى الإيجاز، وأنهم يكرهون التطويل الممل". ويختتم خليل السكاكيني مقاله بقوله: "إذا لم يراع الكاتب الاقتصاد فيما يكتبه – في وقته ووقت القارئ – لم يجد من يقرؤه.
استدعى مقال السكاكيني ردًا من الكاتب والمفكر اللبناني شكيب أرسلان (1869 – 1946)، الذي قام بنشره في الجريدة ذاتها، "السياسة"، في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1923 تحت عنوان "لكل مقامٍ مقال". وفيه، يقول أرسلان إن السكاكيني قصده شخصيًا في مقاله حين استشهد بجملٍ من نداء الوفد السوري الذي كتبه أرسلان، ووجِّه إلى الأمة العربية، بوصفه مثالًا على إطالة الكلام وتكراره.
يقول شكيب أرسلان إن البيان الذي استشهد به السكاكيني، إنما كُتب بحيث يراعي: "حالة من يخاطبهم وضرورة تمكين المعاني من نفوسهم وتحريك عواطف حميتهم مما هو في كل لغةٍ وفي كل منطق وفي كل أدب موطن التكرار الأكبر ومحل التأكيد الألزم؛ إذ كانت المناشير العامة والرسائل الموجهة إلى الجماهير دائمًا على هذا النسق، ولم تكن قاعدة "خير الكلام ما قل ودل" موضوعةً لمثلها إلا إذا اختلت قاعدة أخرى هي أعم منها، وهي: "لكل مقاٍم مقال".
وأشار أرسلان في مقاله إلى أن ما دفعه إلى الرد على السكاكيني، هو رؤيته بأن الأخير يضع نفسه: "موضع أستاذ اللغة وشيخ الصناعة، والجهبذ الذي يقبل هذا ويزيف ذاك، والقاضي الفيصل الذي يحكم ولا معقب لحكمه، ماضيًا في غلوائه مسرورًا بآرائه راضيًا عن أنحائه". بالإضافة إلى رغبته في أن يبيّن له: "مناهج اللغة في باب الإيجاز والمساواة والإطناب ومقام كلٍ منها ليعلم أن مقام منشورنا المرسل إلى الأمة العربية (...) هو مقام إطنابٍ كما لا يخفى على كل من شدا شيئًا من الأدب أو طالع شيئًا من آثار هذه الأمة".
تَركّز سجال السكاكيني وأرسلان حول مسألتي الأسلوب والإنشاء في العربية، على مسألة تكرار الكلام في غير موطن التكرار والإسراف في استعمال المترادفات
يستعرض المفكر اللبناني في هذا السياق، عددًا كبيرًا من الأمثلة لإثبات وجهة نظره وصحة موقفه من الإطناب، الذي انتقده السكاكيني في مقاله. كما حرص أيضًا على تنويع مصادر أمثلته، حيث شملت الشعر والنثر والحديث والقرآن الكريم أيضًا. أما بشأن حديث الأديب الفلسطيني عن مذهبٍ قديم وآخر جديد في الأدب، يقول أرسلان: "لا أعلم مذاهب جديدة إلا في العلم والفن، وأما في الأدب واللغة فلا أعرف إلا مذهبًا واحدًا هو مذهب العرب، وهو الذي يسميه بالمذهب القديم، وهو الذي يجتهد كل كاتبٍ في العربية أن يحتذي مثاله ويقرب منه ما استطاع".
وأضاف أرسلان: "فأما المذهب الجديد الذي أشار إليه في الأدب والإنشاء العربي فلا نعلمه في المذاهب ولا وصل إلينا خبره، فحبذا لو أتانا صاحبنا بتعريف المذهب الجديد هذا ودلنا على أمثلةٍ منه وكتب مؤلفة فيه". واختتم الأديب اللبناني مقاله بقوله: "أرجو الأستاذ المنتقد ألا يؤاخذني على الإطناب؛ لأنه ضروري لإيجاد صورة تامة في الذهن، ولإقناع من كان مكتفيًا برأيه، وأن يتغمد "قلة بضاعتي ونزارة مادتي الفكرية" بوفرة بضاعته وغزارة مادته، وفوق كل ذي علم عليم".
لم يفوِّت خليل السكاكيني فرصة الرد على أرسلان، وإطالة أمد سجالهما قدر المستطاع. حيث نشرت جريدة "السياسة" رده على مقال الأديب اللبناني في الثاني والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر 1924. وفيه، قال السكاكيني إن ما دفع أرسلان إلى الرد على مقاله، هو استشهاده ببعض أقواله. واعتبر أن ما جاء في رده، بمتنه الطويل، يُعد: "دليلًا جديدًا على أن الأمير من أصحاب المذهب القديم، وأنه لا يزال مولعًا بالمترادفات على غير حاجة إليها، ولا فائدة منها".
ويتساءل الكاتب الفلسطيني في رده: "ما قول الأمير لو شئنا أن نترجم عباراته هذه إلى لغةٍ أجنبية، ولم يكن فيها من المترادفات ما في اللغة العربية، أفلا نضطر إلى تكرار اللفظ بعينه في غير مواطن تكراراها؟ (...) ثم ما الفائدة من تكرار اللفظ بلفظه أو بمرادفه؟". ويضيف متعجبًا: "إذا كان لكل مقامٍ مقال، فما باله يجعل المقال الواحد لكل مقام؟".
"المذهب القديم" مصطلح استعمله خليل السكاكيني لوصف أسلوب الكتّاب الذين يميلون إلى تكرار الكلام في غير موطن التكرار والإسراف في استعمال المترادفات
ورأى السكاكيني أن الشواهد التي اقتبسها أرسلان للرد عليه: "ليست مما يصح الاستشهاد به فيما نحن فيه، فهي من واد ومسألتنا من وادٍ"، وذلك قبل شروعه في تفنيد بعضها، وتبيين أصولها ومعانيها ومواطنها أيضًا. وخلص خليل السكاكيني في نهاية مقاله إلى القول بأنه: "كان الأولى بالأمير أن يقول إنه قد ورد في بعض أقوال العرب المنقولة إلينا على ذمة راويها شيء من الترادف، لا أن هذا أسلوب العرب، وإلا فكان يجب – على رأيه – إذا قبل رأس الحكمة مخافة الله، أن يقال ودليل العقل تقوى الخالق، وعنوان الفضل خشية الباري. أعيذ اللغة العربية من مثل هذا".
استمر السجال بين خليل السكاكيني وشكيب أرسلان حول مسألتي الأسلوب والإنشاء في اللغة العربية وقتًا طويلًا، حيث تجاوز عدد ردودهما على بعضهما البعض ثماني مقالات قدّما فيها تصوراتهما حول هاتين المسألتين، وشواهدهما التي استندا إليها لإثبات صواب وجهة نظرهما. وقد جمع خليل السكاكيني هذه المساجلات في كتابه "مطالعات في اللغة والأدب"، الذي صدرت طبعته الأولى في مدينة القدس عام 1925.