الفيلم السابع في مسيرة المخرج الشهير دارين أرونوفسكي يحكي عن أُم (جينيفر لورانس) تعيش مع زوجها الشاعر المعروف (خافيير بارديم)، يأتيهما زائر غير متوقع، وهو رجل مسن (إد هاريس). يستقبلانه بعد أن يعبّر "الغريب" عن إعجابه بالشاعر، وسرعان ما يفرض نفسه ويستبيح المنزل.
يقع أرونوفسكي بفيلم Mother ضحية مرّة أخرى للرمزيّة والتعجّل في بناء نصّه أو ما يريد أن يقدّمه، هو في النهاية ليس فيلمًا سيئًا، لكنه ليس من أعظم أفلام الرجل في وجود مرثيّة حُلم والمصارع
وفي اليوم التالي، تأتي زوجة المسن (ميشيل فايفر)، وتبقى الى جانبه، بحيث لا تترد في طرح أسئلة شخصية على الأم والشاعر، خصوصًا تلك التي تتعلق بالإنجاب وغياب الأطفال، ثم تبدأ سلسلة من الأحداث الغريبة والسيريالية التي تزعج الأم والمُشاهد أيضًا. لكن رغم الفوضى التي تعم المنزل، يبقى الشاعر رحب الصدر، ولا يتردد في إدخال كل زائر.
منذ البداية يرسم الفيلم إطار العلاقة بين الزوجين، الزوج يبدو منعزلًا في مكتبه الذي لا يُسمَح لأحد بدخوله إلا بتصريح منه، هي من تعتني بالبيت وهي التي أخذت على عاتقها البناء والتزيين، وعلى الرغم من أن علاقتهما الجنسية ليست على ما يرام، ورغم أن هذا الشاعر/الزوج يعاني في خلق عمل أدبي جديد يصبح هو عمله الأعظم وأيقونته الخالدة، فالنص يصوّر علاقتهما كعلاقة إله وخدَمة معبده، هو من يملك زمام الأمر، وهي من تقدم الراحة.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Celine and Julie Go Boating": أهمية أن تقدس الجنون
المنزل هادئ جدًا، إلى أن يصل الغريب، ومع دخوله يبدأ الفيلم المرحلة الأولى في صرح بناء رمزيته وكابوسيته، ويلاحظ جدًا أن الزوج يعتني بالغريب في مرضه، وحين تلاحظ الأم جرحًا في ضلع الغريب تظهر زوجة الغريب بعدها، في إشارة واضحة لخلق حوّاء من ضلع آدم، وحين تصل الزوجة - حوّاء - يعقد الفيلم مقارنة بين العلاقتين، علاقة ناجحة حسيّة متوّجة بولدين، وعلاقة جافة عقيمة لم تتوّج بأي أبناء.
وحين يكسر الغريب وزوجته الكريستالة المقدّسة لدى الزوج، يطردهما الزوج من الحجرة التي يكتب فيها/الجنة ويغضب ويغلقها بالأخشاب، في إشارة واضحة لطرد آدم من الجنّة، يزداد الأمر تعقيدًا بوصول ابني الضيف والضيفة، الابنان الشابان اللذان يقتتلان ويتصارعان على حب أبيهما، حتى يصرع أحدهما الآخر على أرض المنزل، في إشارة واضحة لقابيل وهابيل، إذًا ذلك البيت الذي تدور فيه الأحداث هو صورة للبشرية بكل صراعاتها وآلامها وشرورها وأطماعها.
يدخل الفيلم الثلث الأخير بعد أن تحمل الزوجة وينتهي الشاعر من كتابة القصيدة، ثم يأتي عامة الشعب من كل مكان ويغزون المنزل، هم محبو الشاعر ولكنّهم أشبه بتابعي الأديان المجانين، هناك من يصلي وهناك من يغني، هناك من يصيح وهناك من يضرب نفسه بالسياط، هناك من يتعبد بالطبيعة وهناك من يهتف للحرية التي خلقهم عليها ربهم.
وحين تلد الزوجة يقدّم الشاعر ابنه للعامة، فيقتلونه وتتوزّع الأشلاء بينهم، فتقرر الأم الانتقام وتحرق المنزل بمن فيه، ويولد من جديد عالم الله، المكوّن من الشاعر/الإله وقلب الطبيعة/الأم، في تجاهل كامل للزمان والمكان.
مشكلتي مع هذا فيلم Mother تتلخّص في عدّة نقاط، أولها أن الفيلم منذ لقطاته الاستهلالية يؤسس لاتجاهه الرمزي ويتجاهل تمامًا سرده الدرامي، يبدأ بالشكل التجريدي للشخصيات، والتي لا تحمل أي اسم يعرّف عنها. هذا الأسلوب يؤكد على الدلالات الرمزية لعناصر القصة، والذي يجسد التأملات الوجودية، بالإضافة إلى سرد الأحداث اللامنطقي، ما يعطي انطباعًا بأن الفيلم ملخص عن سفر التكوين.
التأويل الواقعي لفيلم Mother من الأساس يبدو منقوصًا ويذهب إلى نفق مسدود، فلماذا توقّف الشاعر عن الكتابة؟ وما هي ظروف زواجه من الأم التي تصغره سنًا بعدّة أعوام؟ وإن كان يعاني هو من أزمة ابتكارية في الخلق والكتابة، لماذا يفتح أبوابه للغريب بكل هذا الود في حين أنه يعيش حياة عقيمة مع زوجته؟
من أين علمت الزوجة/حوّاء بمكان زوجها/آدم؟ وكيف وصل إليهما الولدان؟ من أين جاء الجرح في ضلع الغريب؟ ولماذا لا يوجد أي تفسير درامي واضح لهذا الجرح بغير الرمزيّة؟ ولماذا يصر الفيلم على هذا الشعور بالريبة تجاه الغريب وزوجته؟
اقرأ/ي أيضًا: سينما ثيو أنجيلوبولس.. عالم التجوالات الطويلة
كل هذه النقلات والفجوات تعطي شريطًا صوتيًا بصريًا لا يمكن تفسيره بغير الرمزيّة، إذًا دارين أرنوفسكي يسعى منذ البداية للبعد الرمزي ولا غيره، ولكن مع ذلك فرمزيّته فجّة بشكل واضح، ولا تعطي أي فرصة لما نطلق عليه Subtext.
لا يشعر المشاهد في فيلم Mother بشحذ عقله في المشاهدة، ولا يشعر بأن هناك ما يحمل حكاية الفيلم إلى آخرها، يتقبل الرمزية كما هي ولا يُعطَى الفرصة للتفكير في ظل الإحساس الخانق بالتوتر الذي يخلقه أرونوفسكي، وبالتالي فالفيلم لا يقدّم الرمزيّة كما يجب أن يقدّمها، وتبقى أزمته الأكبر في الخلط بين المستوى الواقعي والرمزي، والذي حدّد التفاعل معه بالتفسير الرمزي، كأنّه يتّخذ الدراما كحيلة هشّة يتوسّل بها كي يقول شيئًا عن الرمز.
فيلم Mother لدارين أرنوفسكي منذ لقطاته الاستهلالية يؤسس لاتجاهه الرمزي ويتجاهل تمامًا سرده الدرامي
صحيح أن دارين أرنوفسكي لم يبتعد كثيرًا عن إثارة الهلع لدى المشاهدين، وهو أحد العناصر التي طالما برع في التعامل معها جيدًا، وصحيح أن الأداءات ممتازة وتكاد تعبر بالفيلم إلى بر الأمان بجوار كادرات خانقة معتادة من ماتيو ليباتك مصوره الأثير.
إلا أن فيلم Mother يفقد الكثير على مستوى تطوّر الحدث وعلى مستوى برود الحكاية المناقض للسرعة المفرطة في تقديمها، فيقع دارين أرنوفسكي ضحية مرّة أخرى للرمزيّة والتعجّل في بناء نصّه أو ما يريد أن يقدّمه، هو في النهاية ليس فيلمًا سيئًا، وليس من أعظم أفلام الرجل، مقارنة بأفلامه السابقةمرثيّة حُلم والمصارع، لكنّه يستحق المشاهدة وخصوصًا من مريدي الرجل ومتابعي أفلامه الشغوفين.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "The Shape of Water".. فانتازيا وإثارة وجريمة وجاسوسية ورعب في شريط واحد!
جورج كلوني عن فيلم "Suburbicon": لا أصنع أفلامًا لتجني أموالًا طائلة!