استيقظ أنور مع تسلل خيوط الفجر الأولى، ينظر من النافذة بعيون غائرة، لا مكانَ يذهب إليه، فقد تحول بيته القديم إلى كومة أنقاض، وهو يسكن الآن بيتًا مستأجرًا.
تراكمت عليه مستحقاته، بعد أن فقد عمله في مكانه الجديد، تنهد تنهيدة عميقة، ناظرًا إلى زوجته المنحنية على طاولة الكتابة المهترئة، التي لم تعد صالحة حتى للبيع.
كانت ريحانة تكتب على ضوء الشمعة أسماء وأفكارًا توشك أن تودعها، وقد تجمَّع الدمع على حدقاتها مثل اللؤلؤ، لقد باعوا كل شيء، حتى صور الكُتاب العالميين التي تزين الغرفة المخصصة للقراءة وما كتبوه من قصص وأشعار، حيث يتلقفها طلاب الشهرة ويكتبون عليها أسماءهم!
أصبح البيت عارياً من كل مستلزماته الرئيسة، فكلما يقدم المؤجر ويطرق الباب تنتابهم حالة هيستيرية بعد أنِ انقضت كل الأعذار، وتصبح طرقاته على الباب أشبه بالفأس الذي يضرب في جماجمهم، لم يطرق بابهم سوى المؤجر وجباة الماء والكهرباء، كأنهم يعيشون في وسط صحراء قاحلة، لا بشر فيها غير جباة الأموال.
خرج أنور إلى باحة البيت باحثاً في القبو عن صندوقٍ كبير هو أشبه بالتابوت، تتخلله ثقوبٌ من جوانبه، لقد أرادا تنفيذ الفكرة الملحة التي طالما راودتهما، وأرقت نومهما "بيع أطفالهم الذين يقطنون الرفوف" ولا يزالون مسترسلين في نوم عميق.
وضعهم في الصندوق برتابة واحدًا تلو الآخر ماسحًا كل كدمة وغبار عن أجسادهم، تحولت بشرة زوجته ريحانة إلى ما يشبه الطباشير، ساعدته في حمل الصندوق بيدين مرتعشتين، خرجا قاصدين المتجر، أثناء سيرهم، قابلهم شيخٌ كهل، عُرف بالحي بفضوله، الذي دفعه إلى السؤال عما يخبئانه في الصندوق، أجابه أنور على مضض: "بضاعة أود أن أتاجر بها، والدنيا أصبحت بيع وشراء كما تعلم يا شيخ، حتى الله أصبحت له دكاكين كثيرة يشغلها رجاله"، لكنه أصر على فتح الصندوق وما أن رأى ما بداخله هز يده قائلاً: "إنها بضاعة كاسدة لا تساوي شيئاً، وأشاح بوجهه عنهما، واسترسلا بالمشي متجاوزين وجوه المارة الزاخرة بالشك والريبة، شاهدت ريحانة المتجر وأخذت تحملق بعيونها، التي أصبحت مثل الجمر، قرأت شاهده الذي كتب أسفله، مستعدون لشراء الكتب القديمة والمستخدمة.
قبل أن يدخلوا المتجر شاهدوا سكيرًا مترنحًا واضعًا في فمه سيجارة وراح يشتم ويلعن كل من يمر أمامه حينما شاهدهم انحنى على الصندوق وأخذ يبكي أمي أمي، ليرحمك الله، حينما ماتت وضعتها بمثل هذا الصندوق الكبير، وأخذ يحرك سقفه حتى سقط جانباً ناظراً إلى جوفه، آهٍ!آه! توقعت أن ما في هذا الصندوق جثة تودان دفنها لم أعلم أن الكتب مصيرها الدفن أيضاً مثل الإنسان، نظر إلى وجهيهما بانكسار، واضعًا كل ما في جيبه من أموال في الصندوق، وأخذ يضحك ماسدًا بيده شعر أنور، الذي بادر بإخراج الكتب؛ ولكنه منعه وأحاطه بذراعيه قائلاً كلمات متقاطعة "أنا لا أجيد القراءة، هل الدنيا بيعٌ وشراء دائماً؟
اقرأ/ي أيضًا: