منذ فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية البريطانية، الخميس الفائت، لم يعد كير ستارمر مجرد رئيس عادي لـ"حزب العمال" فقط، وإنما الرئيس الذي أعاد الحزب إلى السلطة في بريطانيا بعد 14 عامًا من حكم "حزب المحافظين".
وعدا عن أخطاء قيادات "حزب المحافظين" وأزماته الداخلية، التي فاقمت من الأزمات التي مرت بها بريطانيا منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي عام 2016، أعاد الكثير من البريطانيين، والمحللين السياسيين وكذلك الصحف الكبرى؛ فوز "حزب العمال" في الانتخابات إلى كير ستارمر.
يوصف ستارمر بأنه شخصية غير نمطية في السياسة البريطانية مقارنةً مع جيله من الطبقة السياسية الحالية، سواء في ملامحه الهادئة أو نبرته الصارمة أو صرامته في العمل، وفق وكالة "فرانس برس" التي قالت إنه برز في المشهد السياسي الحالي: "بقدرته على التقدم بخطىً أكثر تمهلًا وحذرًا"، بعيدًا عن "مغامرات" بوريس جونسون، وليز تروس، وجيرمي كوربن، واليميني المتطرف نايجل فرج، وغيرهم.
يمثّل كير ستارمر حالة فريدة في الساحة السياسية البريطانية، ويوصف بأنه شخصية غير نمطية مقارنةً مع جيله من الطبقة السياسية الحالية
ورأى كثيرون أنه يمثّل حالة فريدة في الساحة السياسية البريطانية لقدرته على العودة بـ"حزب العمّال" إلى السلطة، وتولي رئاسة وزراء المملكة المتحدة رغم خلفيته المتواضعة مقارنةً ببقية رؤساء الوزراء السابقين. فمن يكون كير ستارمر؟
النشأة
ولد كير ستارمر في الثاني من أيلول/سبتمبر عام 1964، في منطقة ساوث ورك في لندن، لعائلة بريطانية متواضعة مؤلفة من 6 أفراد، أبوين و4 أبناء. وكان ستارمر، الذي نشأ مع عائلته في منطقة سوراي بلندن أيضًا، الثاني بين إخوته.
وكانت لنشأته في أسرة متواضعة تأثير كبير على حياته وقناعاته السياسية، خاصةً مرض والدته المزمن في المفاصل الذي أجبرها على استخدام كرسي متحرك، والذي يقف خلف قناعته بضرورة توفير الرعاية الصحية لجميع البريطانيين كما سبق وصرّح بنفسه في مناسبات مختلفة.
ولم يتردد ستارمر في توظيف نشأته وعائلته في خطاباته السياسية، إذ يقول الأكاديمي تيبو هارويس: "رغم أنه ينحدر من الطبقة العاملة، فإن تكرار تلك المسألة بانتظام يسمح له بالتذكير بأنه أصلًا ليس محترفًا في عالم السياسة وأن لديه مسيرة مهنية طويلة"، مضيفًا: "يستطيع بهذه الطريقة أن ينشر صورة ذلك الرجل الموجود قبل كل شيء لخدمة وطنه، بعيدًا عن الطموحات المهنية".
ويضيف هارويس: "خلافًا لتوني بلير مثلًا، فإن كير ستارمر يعي جيًدا بأنه لا يتمتع بشخصية كاريزمية. ومن خلال التركيز على حياته المهنية، فهو يريد قبل كل شيء الترويج لصورة الرجل الجاد والمباشر والمنهجي". وهو ما يرى فيه هارويس ميزة لصالح ستارمر: "بعد سنوات شهدت فضائح سياسية" عدة في المملكة المتحدة.
التعليم والمسيرة المهنية
تلقى ستارمر تعليمه الابتدائي في مدرسة "ريغات" بلندن، ونال بفضل تفوقه منحة دراسية مكّنته من مواصلة دراسته في المدرسة بعد أن تحوّلت إلى مدرسة خاصة. أما دراسته الجامعية، فكانت في جامعة ليدز، حيث درس القانون وحصل على البكالوريوس، ومنها نحو جامعة أكسفورد التي درس فيها القانون كذلك، وحصل منها على الماجستير.
برز ستارمر في عالم المحاماة في لندن سريعًا، خاصةً بعد مساهمته في تأسيس مكتب المحاماة "داوتي ستريت" الذي أصبح من بين أكبر مكاتب المحاماة في العاصمة، واشتهر بدفاعه عن القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، وهو التخصص الذي اختاره ستارمر وبرز فيه، وكان له أيضًا تأثير كبير على مسيرته السياسية فيما بعد.
وبسبب نجاحه في أغلب القضايا التي رافع عنها، وبروز اسمه في هذا المجال، أصبح ستارمر في عام 2002 ضمن الفريق القانوني للملكة إليزابيث، ثم تولى في عام 2008 إدارة النيابة العامة البريطانية، أي بعد عام من زواجه من فيكتوريا ألكسندر التي أنجب منها طفلين، وهي محامية تعمل في القسم القانوني لهيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية.
وتولى ستارمر فيما بعد رئاسة النيابة العامة الملكية في بريطانيا وويلز، وكانت رئاسته لها أهم نقلة في حياته المهنية، إذ يُعتبر هذا المنصب من أهم المناصب القانونية في المملكة المتحدة وأكثرها حساسيةً أيضًا، الأمر الذي دفعه إلى تجنب الأضواء طيلة مدة عمله التي سعى خلالها إلى إصلاح القوانين المتعلقة بمجموعة واسعة من الجرائم تشمل الاعتداءات الجنسية، والكراهية، والعنف الجنسي، والعنصرية.
ولم يكن ستارمر خلال هذه السنوات بعيدًا عن السياسية، إذ كان مهتمًا بها دون الانخراط في تنظيم سياسي أو التعبير عن مواقفه السياسية علنًا. واللافت أن عائلته تؤيد "حزب العمال"، وأن والده أطلق عليه اسم "كير" تيمنًا بالسياسي العمالي "كير هاردي" الذي يُعتبر من أشهر الزعامات العمالية في تاريخ بريطانيا، وأحد مؤسسي "حزب العمال".
من قواعد "حزب العمال" إلى زعامته
لا يُعتبر تولي كير ستارمر رئاسة النيابة العامة الملكية حدثًا فارقًا في مسيرته المهنية فقط، بل والسياسية أيضًا، ذلك أن المنصب جعل منه شخصية عمومة وساعده في دخول البرلمان البريطاني عام 2015 عن منطقة هولبورن سانت بانكراس بوصفه مرشحًا عن "حزب العمال"، الذي سرعان ما شغل عدة مناصب مهمة داخله.
وبعد 5 سنوات فقط على دخوله الحياة السياسية، في عام 2020 تحديدًا، انتُخب ستارمر رئيسًا لـ"حزب العمال" خلفًا لجيرمي كوربن عقب الهزيمة الكبيرة التي مُني بها الحزب في انتخابات 2019، والتي تعد الأقسى في تاريخ الحزب منذ عقود.
وشهد الحزب في عهد ستارمر تغيّرات كبيرة بدأت بمحاولاته إقصاء تيار كوربن المؤيد للقضية الفلسطينية، والذي وصف بأنه "التيار المعادي للسامية"، من الحزب. وقد وصل الأمر بالزعيم الجديد إلى حد طرد كوربن نفسه وحرمانه من الترشح باسم "حزب العمال".
وأعقب طرد كوربن تضييقات كبيرة على اليساريين داخل "حزب العمال"، الذي عَمِل منذ توليه لرئاسته على إبعاده عن اليسار وجرّه نحو يمين الوسط، وذلك تزامنًا مع تنامي طموحه في الوصول إلى رئاسة حكومة المملكة المتحدة، خاصةً في ظل الأزمات المتلاحقة التي عجز المحافظون عن حلها.
ستارمر والحرب على قطاع غزة
لم يكن موقف زعيم "حزب العمال" مختلفًا عن الموقف الرسمي للحكومة البريطانية، التي يقودها المحافظون، لناحية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إذ عبّر منذ اليوم الأول للعدوان في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، عن دعمه لـ"إسرائيل" في حربها على غزة.
وأصدر ستارمر العديد من التصريحات المتطرفة في دعم "إسرائيل" والدفاع عن جرائمها بغزة، مثل تأييده قطعها الكهرباء والماء عن القطاع، الأمر الذي اعتبره كثيرون، من داخل وخارج "حزب العمال"، تأييدًا صريحًا للإبادة الجماعية في القطاع.
وشهد "حزب العمال" في أعقاب تلك التصريحات، التي تراجع عنها ستارمر لاحقًا، توترات داخلية كبيرة بينه وبين القيادين والأعضاء المؤيدين لفلسطين وغزة أدت إلى استقالة عدد كبير منهم احتجاجًا على موقفه من الحرب، وطريقة تعامله مع المعارضين لها داخل الحزب.
ولكنه، مدفوعًا بحساباته السياسية وطموحه في الوصول إلى رئاسة وزراء بريطانيا، خفّف من حدة مواقفه الداعمة لـ"إسرائيل"، وطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة، بل وتعهد بالاعتراف بدولة فلسطين في حال فوز حزبه في الانتخابات ووصوله إلى رئاسة الحكومة.
وبالفعل، فاز "حزب العمال" في الانتخابات النيابية المبكرة في المملكة المتحدة بحصوله على أكثر من 410 مقاعد، متقدمًا بفارق كبير على منافسه التاريخي "حزب المحافظين" الذي مُني بهزيمة ساحقة بعدما تحصّل على 131 مقعدًا فقط، وهو ما اعتُبر أسوأ نتيجة انتخابية للحزب منذ عقود طويلة.
ورغم فوزه المتوقع، بحسب الكثير من استطلاعات الرأي، إلا أن "حزب العمال" تعرض بدوره لهزيمة انتخابية كبيرة في المناطق التي يسكنها عدد كبير من المسلمين بسبب موقف الحزب من الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة.