ما الذي تقوله صورة شجرة وحيدة في برية؟ أو مائدة مهجورة في غرفة طعام؟ أو ظلال وجه غبشة؟ المشترك البديهي بين هذه كلها، هو الغياب. أشياء وأشخاص هم في هذه اللحظة وحيدون. فالوحدة لا تتحقق إلا بغياب الذين يلغون مفاعيلها. والمرء لا يكون وحيدًا إذا لم يكن من قبل مكتظًا. هذه أشياء وكائنات ترنو إليك كما لو أنها تتوسل لتخبر قصصها. القصص المحبوسة في الصدور، تلك التي لم يتسن لأصحابها أن يخبروها لأحد، فعاشوا وماتوا كما لو أنهم لم يوجدوا أصلًا.
هذه الكائنات والأشياء التي تقف وحيدة في أعمال شوقي يوسف تشبه كلابنا الأليفة. صامتة، ولا تجيد الكلام لكنها تجيد التعبير
عالم شوقي يوسف المستعمل هو تحية لهؤلاء. الصور التي يلتقطها واللوحات التي يرسمها، لا تخبر القصص، لكنها تؤكد وجودها، وتعترض على إهمالها وتسعى لتربية الندم والشعور بالذنب في قلب مشاهدها. لأنه لم يبذل جهدًا كافيًا ليكتشف أن ثمة حياة كانت هنا ذات يوم، وربما ستعود إليها حرارتها بعد قليل.
اقرأ/ي أيضًا: معرض أسامة بعلبكي.. شراكة شخصية مع العزلة
هذه الكائنات والأشياء التي تقف وحيدة في أعمال شوقي تشبه كلابنا الأليفة. صامتة، ولا تجيد الكلام لكنها تجيد التعبير. وأول ما تعبر عنه هو حالة المشاهد نفسه، فإن كان يشعر بأنه أهملها، فذلك أدعى أن يأخذه الندم أو الغضب، وإن كان يشعر بأنه الوحيد المهتم بها، فهذا أدعى إلى أن يغمره فيض من الحب لهذه الكائنات والأشياء يعوضها عن كل الذين استعملوها ولم يقعوا في حبها. كل هذه المشاهد تشبه في مكان ما أمًا على رصيف مرفأ تودع أبناءها الذين أخذتهم السفينة إلى بلاد بعيدة. تبكي وتلوح بمنديلها وهي تعرف أنها من هذه اللحظة دخلت في الصمت، وأن لحظة غياب شراع السفينة في الأفق هي اللحظة التي ستفقدها لسانها.
هذه الطبيعة صامتة لأنها لم تجد قربها أحدًا تقص عليه سيرتها. ربما تتحدث في سرها، وربما تصرخ في الليل تبديدًا للوحشة، لكنها ما أن تلتقي بها عينك حتى يغمرها الصمت كما لو أنها لم تنطق أبدًا. تترك مهمة التخمين لك. هل جرحها الذين استخدموها من قبل؟ هل كان لها أخوة وجيران ذات يوم؟ وماذا حل بهم؟ وكيف استطاعت الصمود وحيدة في هذا الخواء؟ والخواء هنا تعبير مجازي. ذلك أن ما حولها من أحجار وتراب في وسعه لو رأته عين شوقي يوسف أن يصير مثلها، كائنًا وحيدًا. ذلك أن الرسم والتصوير لا ينطق ويقص ما يرسمه الرسام والمصور بل ما يراه. وشوقي يوسف يرى ويعرض علينا ما يراه. إنها العين الراسمة والمصورة وليست اليد. اليد التي تمسك الريشة أو الكاميرا هي فقط وسيلتنا لتبديد الغياب.
ولا بد من أن نذكر أن شوقي يوسف فنان تشكيلي ومصور وأستاذ جامعي لبناني مقيم في بيروت. يستخدم في أعماله وسائط متعددة، ويتمحور معظمها حول الجسد الإنساني وتحولاته في منطقة الشرق الأوسط المضطربة.
اقرأ/ي أيضًا: