في مثل هذه الأيام من عام 2008، 22 كانون الثاني/يناير تحديدًا، أغمض هيث ليدجر عينيه إلى الأبد، وأدار ظهره لمستقبل سينمائي كان ليكون حافلًا بعشرات الأفلام الملهمة والقوية لو أنه لا يزال حيًا.
كانت حياته القصيرة شديدة الكثافة والتسارع الذي بدا، إلى جانب الزخم الكبير في سيرته كممثل هوليوودي، أشبه بمؤشر على أنه سوف يغادر العالم باكرًا، إذ لم يحدث كثيرًا أن نضج ممثل في "هوليوود" بهذه السرعة، ولم يقفز كُثر تلك القفزات التي قفزها ليدجر ضمن مسيرته المهنية. فعادةً ما يكون التسارع في صعود القمة، والزخم المتتابع في بناء سيرة ذاتية مهنية، نتاج ضربة حظ قوية مصدرها فيلم تجاري ساحق النجاح، أو تعاون مفاجئ مع أيقونة سينمائية تنقل سيرته من محطة إلى أخرى. لقد حدث كل شيء بشأن ليدجر بسرعة وثبات، وحملت نجاحاته المتسارعة وحسن اختياره لأدواره معنى فلسفيًا لنسبية الزمن، واكتسبت هذه الفلسفة مصداقية أكبر من خلال رحيله المبكر.
لعب هيث ليدجر شخصيات مركبة وغرائبية وتاريخية، ببراعة وإخلاص، جعلت من اسمه يلمع سريعًا في أوساط هوليوود
قدم هذا الشاب الأسترالي الوسيم ذي الـ29 عامًا، خلال هذا العمر القصير، العديد من الأفلام التي سوف تعيش طويلًا لا لأنها ارتبطت برحيله المبكر المحزن، بل لأنها قوية وملهمة وذات فنية عالية. فقد كانت تجاربه بجانب ممثلين كبار وأمام عدسات مخرجين عظام، فضلًا عن شخصيته الفنية التي تشكلت بسرعة، وكسرت خلال سنوات قليلة القوالب الهوليودية التي وضعته، في سياق الكوميديات الرومنسية الخفيفة، كعاشق وسيم جسور غريب الأطوار. لكنه استطاع التحرر من ذلك الإطار سريعًا، وجنح بشغف بيّن نحو الشخصيات المركبة، واختار الطريق الصعب.
كان من السهل على هوليوود جر الشاب العشريني الوسيم إلى عالمها الصاخب، لكن تجاربه جميعها تقول إنه تمسّك بهوية الممثل، زاهدًا بأسلوب حياة النجوم على الرغم من سنه الصغيرة مع أن في مسيرته العديد من التجارب السينمائية القوية، التي لفتت النظر إلى أدواته كممثل، وجعلت منه "جوكرًا" قبل أن يلعب شخصية الجوكر.
استطاع ليدجر لعب شخصيات مركبة وغرائبية وتاريخية، ببراعة وإخلاص، جعلت من اسمه يلمع سريعًا. وقد زادت ميزة التبدل السريع، الذي يبديه بين الشخصية والأخرى، من غموض أدواته والرغبة في استكشافها من قبل مخرجين كثر، لينتقل بعدها من تجربة إلى أخرى بثبات وثقة. وعلى الرغم من الشائعات التي كثرت حول موته، وهي كثيرة ومتشعبة وتركّز كثيرًا على ربط موته بتأثره الشديد بشخصية الجوكر التي لعبها في آخر أيامه، إلا أنني أميل كثيرًا إلى تصديق بيان شقيقته التي نفت ذلك بشدة، وأكدت أنه كان يعلب شخصية الجوكر المظلمة بمتعة شديدة، فهذا ما يفعله الممثلون الكبار، فذلك الصدق والاستغراق الشديد يقف خلفه ممثل يعي ما يفعل، ويدرك جيدًا ما هي وسائل الحماية المصاحبة لهذا اللعب الخطير.
التأثير قد يحصل، وحصل فعلًا، لكن الشخصية القوية عادةً تحطم الهواة وأنصاف المواهب، وليدجر لا ينتمي إلى هذه المجموعة لأنه يمتلك موهبة كبيرة قهرت الزمن القصير، ووضعته بين نجوم الصف الأول سريعًا. وفي هذه المقالة نقدم مجموعة من أهم أفلام هيث لدجر مع توخي الإشارة إلى تلك القفزات السريعة التي صنعت مسيرته القصيرة الحافلة.
1- The Imaginarium of Doctor Parnassus
سوف نبدأ بآخر تجربة قدّمها هيث ليدجر، وآخر ظهور حي له على الشاشة الكبيرة، وهو ظهور لكونه لم يتمكن من إتمام كل مشاهد هذا الفيلم الفانتازي. وكتكريم له، أكمل شخصية ليدجر كل من جوني ديب، وكولن فيريل، وجود لو.
يتحدث الفيلم عن مخيلة الدكتور بارناسوس وتقديمه لعروض ترفيهية تنقل الجمهور إلى عوالم سحرية وتجارب بصرية وحسية مميزة. الفيلم مرح ومظلم وخيالي وفيه ما يكفي من المسرحة والأداء المسرحي الأخاذ، وهو من إخراج تيري غيليام، وقد حظي باستقبال جماهيري ونقدي عالي المستوى، ناهيك عن ترشيحه لعدة جوائز أوسكار، فاز منها بأوسكار أفضل تصميم للإنتاج وأفضل أزياء.
2- I'm Not There
في هذا الفيلم الأيقوني، يتقاسم هيث ليدجر مع مجموعة من النجوم السينمائين شخصية الشاعر والموسيقي الشهير بوب ديلان. الطريقة المبتكرة والملفتة في سرد السيرة الذاتية للمغني والشاعر، منحت الفيلم حيوية وعمق وقوة من خلال سرد مراحل حياته عبر أكثر من ممثل، كل منهم يمثل جانب ومرحلة من شخصية المغني الكبير؛ الجانب المنفلت منه، والجانب الرزين، والجانب الموهوب، والجانب الأنثوي، فبدا الأمر وكأنه سباق تتابعي احتفاءً بشخصية جدلية وإشكالية، كشخصية ديلان.
قدّم هيث ليدجر حصته من بوب ديلان إلى جانب كل من ريتشارد غير وكيت بلانشيت وغيرهما. التجربة فيها الكثير من التجريب والحرية، ما انعكس على أداء ليدغر وصحبه في حرية تقديم بوب ديلان وفق وجهات نظر سلوكية ونفسية متعددة. ويُعد الفيلم من أشهر وأنجح أفلام عام 2007، وهو من إخراج تود هينز، وقد حظي بمراجعات نقدية جيدة جدًا، وعدة جوائز وترشيحات جديدة.
3- The Brothers Grimm
يقدم هيث ليدجر في هذا الفيلم تجربة مختلفة على مستوى الأداء في فيلم الأساطير والحكايات الشعبية، كما قدّم قراءة غاية في الجمال والبراعة لشخصية الأخ الأصغر الذي يضمر في داخله إيمانًا خفيًا بصدق الحكايات، وإمكانية السحر في هذا العالم، من خلال شغفه بالحكايات الشعبية إلى جانب شقيقه الأكبر الذي يستخدم معرفته بالحكايا الشعبية للاحتيال على القرويين وسلبهم أموالهم من خلال نشر الشائعات، ثم استخدام أدوات مسرحية لإثارة الرعب لتحقيقها.
لكنهما يقعان في الفخ عندما يتم استدعائهما إلى قرية تختفي فيها الفتيات الصغيرات باستمرار. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفيلم عمل بذكاء شديد على ربط حكايات شعبية ذات استقلالية وجعلها تبدو حكاية واحدة مثل حكاية ليلى والذئب من خلال اختفاء الفتيات، وأسطورة وحكاية رابونزل ذات الشعر الطويل، وجعل الساحرة هي ذاتها رابونزل التي تتحكم بالذئب ليغوي الفتيات الصغيرات، ويحضرهن لها لتستعيد شبابها.
الفيلم يروي بطريقة طريفة وفلسفية حكاية الأخوين الألمانيين غريم اللذان عملا على جمع التراث الشفاهي الألماني والأوروبي وتدوينه. وقد جسد ليدجر في هذا الفيلم، ببراعة، الصراع الداخلي والتناقضات والتنازع بين الخير والشر.
4- The Dark Knight
الفيلم الإشكالي والأيقوني الذي توَّج مسيرة هيث ليدجر، واعتبُر مفاجأة حقيقية في طريقة معالجته للشخصية، والأسلوب البارع الذي انتهجه في إيصال طبيعتها ومشاعرها للجمهور. لم يلق ليدجر بالاً للتكهنات والمقارنات التي انتشرت قبيل الشروع بتصوير الفيلم، وأعادت التذكير بالأداء الساحر والأسطوري للنجم الكبير جاك نيكلسون، بل انفرد بتقديم قراءته الخاصة التي أضافت لشخصية الجوكر، وقرّبته أكثر من الجمهور.
لم ينزع ليدجر عن الشخصية سماتها كشخصية قصص مصورة، بل عمل على تعميقها وأنسنتها من خلال تعريفها كشخصية سيكوباتية، وبأنها أي الجوكر، ذات مرجعية واقعية وليست خيالية بالمطلق، وهذا ما جعلها تتحرك بطرافة. تبدو قوية وضعيفة، مضحكة ومخيفة، طريفة ومعقدة، وربما هذا ما أكسبها ذلك القبول والتعاطف المتزايد من قبل الجمهور بعد عرض الفيلم. وقد وانتزع ليدجر من خلال هذه الشخصية الاعتراف الجماهيري بأنه ممثل هوليوودي من الطراز الرفيع، وبمزايا بحثية وعميقة لا تتعارض بالمطلق مع عالم الترفيه وصناعته.
رحل ليدجر وترك خلفه شخصية تُعد من أكثر الشخصيات متعة للمشاهدة، ليس بالنسبة للنقاد والمختصين فحسب، بل بالنسبة للجمهور الذي اختبر مع قراءة ليدجر للشخصية مساحات جديدة في معالجة وتقديم الشخصية الشريرة في السينما التجارية.
الفيلم من إخراج الأيقوني صاحب ثلاثية "فارس الظلام" كريستوفر نولان، وهو الفيلم الذي منح هيث ليدجر أوسكاره الأول والأخير كأفضل ممثل مساعد.