تسعى هذه المقالة المترجمة عن موقع LARB والتي كتبها ويل كلارك، أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس للإجابة عن سؤال حساس حول السبب وراء إحجام الأفلام والمسلسلات التي تتناول حياة المثليين من الرجال والنساء عن عرض مشاهد جنسية صريحة رغم امتلاء الأفلام الأخرى بمشاهد حميمية بين الرجل والمرأة، وذلك عبر تحليل عدد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تناولت حياة المثليين الجنسيين، للتأكيد على ضرورة وجود فهم أعمق لمشاكل المثليين في المجتمعات الحديثة، خاصة من غير البيض.
قال الناقد الأدبي والسينمائي دي إيه ميلر حديثًا في مراجعة لفيلم (Call Me By Your Name) على موقع المجلة الأمريكية الثقافية Los Angeles Review of Books، إن أفلام المثليين الشائعة تخشى عرض المشاهد الجنسية، وتعتمد على إظهار الجمال العادي والمريح الذي لا يسبب خلافًا. ليس صعبًا أن تعرف لماذا قال ذلك، فمن الصعب إيجاد أمثلة لمشاهد جنسية في الأفلام الشائعة للمثليين، حتى مع فيض معظم الأفلام الأخرى بمشاهد حميمية لغير المثليين.
عندما لا تتوفر حالة من التوافق على الهوية الجنسية يصبح الجنس مناسبة للتصارع مع أشكال معقدة من المشاعر حول المنزل والعائلة والتأثر العاطفي
للالتفاف على مشكلة عرض المشاهد الجنسية بين المثليين، تتخذ أفلام المثليين منحى جماليًا حيث تغطي المشاهد التي تلتقط بطريقة جميلة أو الأجساد الجميلة على "قذارة" الجنس. ونتيجةً لذلك يتخيل المشاهدون الاتصال الجسدي والحميم بين الشخصيات المثلية على الشاشة، لكنهم لا يشاهدون الاتصال الجنسي بين الرجال، ناهيك عن اللقطات التي تعرض مشاهد قذرة، أو يظهر فيها بصاق ومنيّ. يدل النزوع لتفضيل المشهد أو الجسد الجميل على الفعل الحقيقي للجنس، كما يقول ميلر "على الأسلوب الكلاسيكي التجريدي الليبرالي، الذي يشير إلى أن كل شيء مقبول شريطة ألا يُرى". وكما هو متوقع، يتبع فيلم (Call Me By Your Name) نفس الإجراء المألوف، حيث يعرض مشاهد يتوقع فيها ممارسة الجنس على سبيل الإقرار بوجود الرغبة الكامنة لدى المثليين، ثم ينحو بالكاميرا بعيدًا عن عرض الحقيقة المزعجة لفعل الجنس نفسه.
لم يكن ميلر الشخص الوحيد الذي لاحظ تراجعًا معاصرًا في طريقة عرض تلك الأفلام إلى الفترة التي ظهر فيها الفيلم الوثائقي (The Celluloid Closet) - فيلم وثائقي حول تمثيل مجتمع المثليين والمتحولين جنسيًا في السينما. فقد أعرب توم جودري مؤخرًا عن أسفه في مقالة نشرت على موقع مجلة سلايت، لما آلت إليه الأفلام المعاصرة مثل فيلم (Call Me By Your Name)، وفيلم الدراما البريطاني "بلاد الله" (God's Own Country)، والفيلم الأمريكي -الكندي الرومانسي "جبل بروكباك" (Brokeback Mountain) الذي يتناول قصة اثنين من المزارعين في ريف بريطانيا، والفيلم الذي يكاد يكون عاديًا بشكل مؤلم، "مع حبي، سيمون" (Love, Simon) الذي يستعرض قصة مراهقين من الطبقة الاجتماعية المتوسطة في المرحلة الثانوية من ضواحي أتلانتا، ووصفها جودري بأنها أفلام تمحو تاريخ الأقليات الجنسية من غير المغايرين. يقول جودري إن هذه الأفلام، في مجموعها، "تمحو شعورًا ثقافيًا متبادلًا لدى المثليين"، بإزالتها "لشعور الاختلاف من الأسلوب المسرحي" الذي يشكل عنصرًا جوهريًا في ثقافة مجتمع المثليين. فقد صار التاريخ الثقافي لما يدعى (drag balls) (مصطلح يشير إلى ثقافة فرعية للمثليين، حيث تقام حفلات ثقافية يرتدي فيها المثلييون أزياء للجنس المغاير لهم، بالإضافة إلى أنشطة أخرى)، والأفلام ذات الأداء المبالغ فيه مثل فيلم (The Boys in the Band) "نموذجًا طاهرًا للرقة" التي من شأنها أن تعيق تحدّي المثليين. وتقدم لنا في المقابل مجرد إنتاج ثقافي مريح يعبر عن المثليين، متجاهلةً تحديات المثليين تمامًا.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "حياة آديل" لعبد اللطيف كشيش.. دروس في الحياة
تغيرت أولويات حياة المثليين في الآونة الأخيرة، وبينما يصيب المبدأ الذي يطبقه كل من ميلر وجودري من جهة، يخطئ الهدف من جهة أخرى. فكلاهما ينتقدان نوعًا مألوفًا من أفلام المثليين، والتي تتمحور حول أصحاب الامتيازات من الرجال المثليين البيض، بالإشارة إلى أفلام مثل "نادني باسمك" أو فيلم الدراما الفكاهي "مع حبي، سيمون" الذي يتناول قصة مراهقين عاديين من الطبقة الوسطى. إلا أنهما حين يمزجان فيلم Moonlight في الخليط فإن تشخيصهما للمشكلة يصبح خاطئًا، إذ أن التعميم حول أفلام المثليين استنادًا إلى القصص التي تتناول المثليين البيض، يُعد إغفالًا للإبداع فيما تعرضه أفلام وبرامج تلفزيونية حديثة تتمحور حول أسئلة سياسية صريحة عن المجتمع، والتهميش، والتمثيل العادل، والحياة الحميمية التي يواجهها المثليون من غير البيض. وفي هذه الأثناء، يهملان كيف أن أفلام المثليين المعاصرة، حتى الأفلام الجدلية مثل فيلم "نادني باسمك"، تعيد توجيه الاهتمام من الفكرة القائلة بأن جنس المثليين ينشط الهوية المثلية، نحو الحاجة لفهم أعمق للعلاقة الحميمية بين المثليين. ففي رثائهم لغياب أحد أشكال تحديات المثليين في أفلام المثليين المعاصرة، يغفل ميلر وجودري عن وجود أشكال أخرى.
يتناول اثنان من المسلسلات التلفزيونية الحديثة هذه المشكلات وتعرض المثلية والجنس والجمال في الوقت الحالي، وهما مسلسل "الوقوع في حب الملائكة" (Falling for Angels) (عرض موسمه الأول على قناة Here TV في عام 2017-2018) ومسلسل فيدا Vida (عرض على شبكة قنوات STARZ التلفزيونية في عام 2018). تستعرض المختارات القصيرة من مسلسل "الوقوع في حب الملائكة"(مسلسل بقصص وممثلين مختلفين لكل حلقة أو لكل جزء) والتي قام مخرجون مختلفون بإخراج كل حلقة منه، حياة المثليين في مدينة لوس أنجلوس، لكنها تركز على الأجزاء المهملة في التصوير الإعلامي لمدينة لوس أنجلوس وبالأخص أحياء مثل بويل هايتس وليمرت بارك وكوري تاون. يحاول المسلسل في تركيزه على أماكن وأناس غير ممثلين بما يكفي في السينما الأمريكية، إظهار التعاطف والانتباه الذي تحتاجه مجتمعات تقع غالبًا على هامش وسائل الإعلام. أما مسلسل فيدا، الذي تدور أحداثه في حي بويل هايتس، فيركز على شقيقتين أمريكيتين من أصل مكسيكي، إيما ولين، وعلى رحلتهما في اكتشاف ذواتهما الثقافية والسياسية والجنسية في حيهما الذي نشأتا فيه. كلا المسلسلين يستخدمان الجنس للتركيز على تجارب مثلية ينقصها التمثيل العادل في وسائل الإعلام وتستعرض أيضًا التوتر بين التجارب المختلفة للمثليين مثل الرفض والتمرد والقبول الضمني الذي يحتل مركز الصدارة في الجمال المثلي.
يبدأ مسلسل "الوقوع في حب الملائكة: بويل هايتس" وكذلك مسلسل فيدا بوافدين مضطربين. تركز قصة مسلسل بويل هايتس على شخصية جيسي، وهو محام أمريكي من أصل مكسيكي، وشخصية ستيفن، شريكه الأبيض، الذي اشترى منزلًا في حي بويل هايتس، وعلى الرغم من أن ستيفن أصر على السكن في هذا الحي فقد كان جيسي غير مرتاح للأمر. فقد أعرب عن انزعاجه في البداية من صخب الجيران، ثم انفجر غيظًا حين عاتبه ليو، الناشط اللاتيني من سكان الحي، على اعتياده مقهًى مستطبقًا - مقهى مخصص لطبقة أعلى من طبقة سكان الحي السائدة. إلا أن ليو يثير اهتمام جيسي، ليبدأ بعدها بإعادة النظر في سلوكه والتزاماته تجاه مجتمعه الجديد.
نبع التغيير في رؤية جيسي في جزء منه من عدم اهتمام ستيفن بحياتهما الجنسية، ولكن أيضًا من شعور مبهم بسوء الفهم حول تجاربهم العرقية المختلفة. تبدو الحلقة وكأنها تسير في اتجاه واحد وهو إعادة اكتشاف جيسي للهوية السياسية المكسيكية الأمريكية، وابتعاده عن شريكه الأبيض الذي يبدو غير مكترث به.
إلا أن الحلقة لا تتبع ذلك المسار المتوقع، فبينما كان جيسي يحضر حدثًا لجمع التبرعات نظمه ليو في منزله، نشب خلاف بينهما. فسلوك جيسي المهني تتعارض مع نشاط ليو، ويبدو ذلك واضحًا على الأخص حين يلقي ليو قصيدة محرجة بعض الشيء عن النضال السياسي من أجل الحي. (وباعتراف الجميع، فالمشهد هنا عاطفي بشكل ممل ومبتذل). ومع ذلك، يعجب كلاهما ببعض، ثم يذهب كل من جيسي وليو لغرفة نوم ليو ويبدآن في تبادل القبل، ويبدو وكأنهما على وشك ممارسة الجنس.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Imitation Game".. أن تعيش متنكرًا لميولك ليس حلًا
تثبت الكاميرا على جسديهما ثم يتسع المشهد ليعرض بعض الأشياء حين كان ليو شابًا، تربطه بحيه ونشاطه، جاذبةً جيسي إلى ذلك التاريخ بفضل ما بينهما من اتصال جسدي واهتمام جنسي متبادل. إلا أن جيسي يتوقف، ثم ينحو المشهد بينهما إلى حديث عن الحميمية والإحلال العرقي، حيث يشارك جيسي التجارب التي شهدها من التهميش العرقي أثناء نشوئه في تكساس. إذًا تغير الرغبة الجنسية هدفها، لتصبح لحظة من الحساسية المتبادلة تربط الرجلان بواقع سياسي مشترك.
تنتهي الحلقة بتفاهم بين جيسي وستيفن حين يعود جيس إلى المنزل ثم يقبل الاثنان أحدهما الآخر ويأويان إلى غرفة نومهما ليمارسا الجنس وينتهي المشهد على ذلك. يظهر المشهد التالي لحظات استرخاء بعد ممارستهما للجنس، مسلطًا الضوء على السكينة والألفة التي شعرا بها في غرفة النوم. فمن أحد الجوانب، يُنظر إلى هذا المشهد كتأكيد على التطبيع المثلي - الفكرة القائلة بأن العلاقة الجنسية بين المثليين أمر طبيعي- والعلاقة الأحادية بين الشريكين. ومن جانب آخر، فالحلقة لا تخشى إظهار الجنس بقدر ما تشير إلى أن الجنس ليس حلًا للتجاهل الذي يشعر به جيسي.
في حين ترتبط قصص الجنس المثلية عادةً بصحوة وعي سياسية، تؤكد هذه الحلقة على أهمية الدعم العاطفي بعيدًا عن الجنس نفسه. بيد أن ما يبدو مستغربًا بدرجة كبيرة بالنسبة لي في الحبكة أن الحديث بين جيسي وليو يستحث نوعًا من الحميمية تفضي إلى علاقة بين جيسي وستيف. في النهاية، يربط المسلسل هذه الشخصيات الثلاثة في شبكة مثلية عبر السياسية والطبقة الاجتماعية والعرق، والمكان بدرجة أكثر دقة مما يستطيع فعل أو شريك جنسي ما تمثيله بصورة منفرده.
يكمن مغزى الشذوذ في مثاله الأعلى، فهو ليس تصرُّفًا جنسيًا مُعيّنًا أو سلوكًا أو حتى تعريفًا منفصلًا (هوية جنسيّة منفصلة)؛ ولا هو مجموعة ضيّقة محدّدة من الممارسات الثقافية
يحوي مسلسل فيدا، في بنيته الأساسية أوجه شبه كثيرة مع مسلسل بويل هايتس، إذ أنه يستعرض إسقاطًا على الواقع المعاصر من خلال مواجهات أمام مقهًى مستطبق وأيضًا من خلال الخطابة والنشاطات السياسية والاجتماعية واللقاءات المجتمعية والجنس. إلا أن فيدا يختلف في النطاق والعمق، إذ يتحول المسلسل إلى معاقبة إيما على ماضيها، وهي مستشارة ذات نفوذ واسع تعيش في مدينة شيكاغو، ولين التي تعود من مدينة سان فرانسيسكو، وتتخبط بين عشاقها الهيبيز البيض وبين مشروع فاشل لمتجر صغير.
تعود الأختان، لين وإيما إلى منزلهما بعد وفاة أمهما ليكتشفا علاقتها وزواجها من، إيدي، التي لا تزال على قيد الحياة، يفتح المسلسل مجموعة من الأسئلة المتداخلة المتعلقة بالجنس والهوية الجنسية، والحميمية والميراث. تبدأ الحبكة في الاحتدام حين تواجه كلًا من إيما ولين خيارًا بين بيع المبنى الذي تملكه أمهما ليتربحن منه ومن ثَم إخلاء قاطنيه الذين عاشوا فيه منذ فترة طويلة، وبين أن يبقيا في منزلهما لحماية مجتمع كلتاهما قد تنصل منه.
فمن ناحية، يدافع مسلسل فيدا عن الهوية، وما الذي يعنيه أن يكون المرء من سكان حي بويل هايتس، من منطقة على الهامش الاقتصادي يَنظر إليها ساكني مدينة لوس أنجلوس البيض الآن باعتبارها منطقة جديدة وغريبة وفرصةً للاستثمار، وما الذي يعنيه أن ينتمي المرء إلى أقلية تستند على العرق والميول الجنسية. وقد أدى المنتجون عملهم ببراعة بتواصلهم مع أعضاء من مجتمع بويل هايتس حيث صُور معظم المسلسل، وأيضًا بإسناد مهام الكتابة لكتاب أغلبهم من المثليين وغير البيض. وقد نتج عن ذلك تسليط الضوء على التاريخ والثقافة العميقة لحي بويل هايتس من جانب موضوعي وجمالي، مما يضيف إثراءً وحيوية وجمالًا لا نراهم في مسلسل الوقوع في حب الملائكة. يعتبر مسلسل فيدا بمثابة سجل تاريخي لمجتمع وشهادة على صموده وتطوره.
وعلى غرار هذه الخلفية، فالطريقة التي يعالج بها المسلسل قضية الجنس والهوية تأخذ منعطفًا معقدًا، وهذا ناتج في جزء منه عن الطريقة التي تواجه بها كلًّا من إيما ولين ذكرياتهم الخاصة عن والدتهم وعن خياراتها الجنسية التي اختاروا أن يغضو الطرف عنها مسبقًا. بينما يزداد البحث عن الجنس والخيارات الجنسية عمقًا حين تعترف إيما لإختها بميولها الجنسية، وعندما تجيبها لين بأنها تحترم خياراتها الجنسية أيًا كانت، بينما ترفض إيما تقبل فكرة قولبة نفسها في خيار جنسي محدد.
يعطينا المسلسل إحساسًا بأن رفض إيما للاعتراف بميولها الجنسية نوعًا من استراتيجية للتهرب، إذ أننا نرى إيما في بداية الحلقة، في مشهد جنسي مثير مفصل وواضح إلى حد ما مع امرأة أخرى، وإذ بها تحجم عن المعاشرة وتغادر بشكل مفاجئ. كما يبدو أن تنصل إيما من عائلتها وحيّها الذي نشأت فيه يتداخل مع حياتها الجنسية. فهو يحبس عاطفتها وينطوي على حاجتها لمعاقبة نفسها.
اقرأ/ي أيضًا: روبي روز.. "باتْوُمان" مثلية الجنس
لا يبدو أن مسلسل "فيدا" متوافق مع نوع محدد من الهوية الجنسية. وبدلًا من ذلك، يصبح الجنس مناسبة للتصارع مع أشكال معقدة من المشاعر حول المنزل والعائلة والتأثر العاطفي. فحين تجمع علاقة بين إيما وامرأة أخرى ثم تتركها، يشيد المشاهدون بتحررية ممارستهم الجنسية وحقيقة أن الجنس نفسه ليس بحاجة لأن يدل على شيء بخلاف الجنس. وفي نفس الوقت، يجد المشاهدون أنفسهم يتفاعلون مع شعور إيما الخاص بأنها محطمة ووحيدة. وحين نكتشف بأن فيداليا أرسلت إيما إلى تكساس لأنها خافت من أن تكون ابنتها مثلية جنسيًا، نجد أنفسنا في مواجهة سلالة من النساء المثليات اللواتي يعترفن بذلك في السر والعلن، شكلتهم صدمات نفسية خفية وظاهرة.
على الرغم من الأمر بدأ تنفيذه بشكل متقطع وغير منتظم، إذ نجح مسلسلا "بويل هايتس" و"فيدا" في تصوير الشذوذ (الانحراف الجنسي) بصفته عملية دون نقطة نهاية ملموسة أو تعريف ثابت، مثل شيء يُفتح الحديث عنه مرتبط بالجنس بمفهومه الشامل/ الواسع أيضًا.
تتمثل القضايا الأكبر التي نتناولها في استكشاف الألفة العائلية الممزّقة، والقابلية للتأثّر، والتراث الثقافيّ، من بين أمور أخرى. ويتساءل كل من المسلسلين التليفزيونيّين عنما يتطلبه الأمر لبناء أنواع الاتصال الجنسي والعاطفي التي قد تكون شافية في عالم معادٍ للشواذ والأشخاص الملونين (أصحاب البشرة غير البيضاء) والمحرومين من حقّ التصويت.
يدرس كلا المسلسلين أنواعَ التجربة المصغرة التي لا تزال تحتاج لفتح جدل بشأنها باعتبارها جانبًا مركزيًا، وليس جانبيًا، من جوانب الشذوذ. فالمسلسلان أقلّ اهتمامًا بمسألة تجاوز الجنس أكثر من اهتمامهم باستخدام الشذوذ بصفته منبرًا لتناول عدد من القضايا التي الذي تكتسب زخمًا وحيويّة في اللحظة الراهنة؛ بداية من التهميش العِرقيّ والصدمات الأسَريّة والاستغلال الاقتصاديّ، وصولًا إلى الحزن من "اعتبار المثليّة الجنسيّة أمرًا طبيعيًّا" homonormativity.
ماذا سنصنع، في نهاية المطاف، مع الجنس والجمال في هذه الأجزاء؟ هنا يلعب المكانُ دورًا مهمًا؛ إذ تعد مدينة لوس أنجلوس مكانًا قذرًا وأحيانًا قبيحًا، وتتمثّل أبرز معالمه المعماريّة في المركز التجاريّ ومواقف السيارات.
ومع ذلك، وكما تشير أفلام مثل "تانجيرين"، فإنّ قبح لوس أنجلوس قد يضم أيضًا جمالًا غريبًا غير مألوف؛ ولكن الجمال هنا ليس ما يشكو منه ميلر في الطابع الإيطاليّ لفيلم Call Me By Your Name.
وفي "فيدا"، قد ترى لقطات وسط مدينة لوس أنجيليس مفرطة الجمال، أو تلك اللقطات التي تدخّن فيها "إيما" على سلّم الطوارئ -بعد علاقة جنسيّة عابرة- بصفتها إلهاء عن فعل الشذوذ الجنسي. أمّا في "بويل هايتس" حيث تتأرجَح الكاميرا بعيدًا عن الاقتران الجنسي (فالعلاقة أحاديّة الجنس)، تتناسب عضلات الجسد الذكوريّ مع تاريخ "ليو" وطفولته، والتي يكتشفها "جيسي" في مواجهتهما الفاشلة. يعيد كلا المسلسلين Vida وBoyle Heights الانتباه إلى ما يبدو مُحيطًا محلّيًّا مُحايدًا. ولكن من خلال الربط بين الجنس والمكان، يُظهِر كلا المسلسلين كيف أنّ تلك المحيطات ليست مُحايدة. إنهم يجعلون الجنس مشروطًا على بيئتهم في شرق لوس أنجيليس؛ فكلا المسلسلين يحددان ملامح تجربة عرقية واقتصادية هامشيّة معًا بوصفها جوانب طارئة لشذوذٍ يفتقر إلى العرف الثقافي السائد في Boys in the Band أو Greta Garbo للالتفات إليه. يحدّد مسلسلا Vida وFalling for Angels ملامح تلك اللامساواة في صدارتهما. فهما يقدّمان الجنس والجمال كتمهيد افتتاحي؛ فكلاهما يقدّم رؤية للدور الذي يلعبه الجنس والثقافة في العالم الحميميّ للأشخاص الملونين الشواذ، ورؤية للشذوذ الذي لا تتمحور حول تجربة عار الشذوذ، ولكن حول إمكانيّات وتعقيدات التواصل العاطفي. وهنا تحديدًا يفشل ميلر وجوديري في مناقشة محو الشذوذ في الأفلام المعاصرة عن المثليين؛ فهم يقلّلون من الحاجة إلى استكشاف وإيصال الحميميّة في مجتمع المثليين، لا سيما حول المجموعات التي عانَت تاريخيًّا من نقص التمثيل (الحضور).لذا فإنّ إخفاء فيلم "Moonlight" في سلسلة "الأفلام السائدة عن المثليين" يتجاهل الإسهامات الفريدة للفيلم في فهم العرق والشذوذ والإصابات: فيبدو كفاح شيرون ليس حول ميوله الجنسية في حد ذاتها، بقدر ما هو حول الصدمات المتشابكة من سحب الاستثمارات والفقر والعزل والخسارة في أعقاب الوباء العاصف.
اقرأ/ي أيضًا: المثلية الجنسية في السينما المغربية.. تابوهات تُطرح على استحياء
في عالم يمنح القليل من الخصوصيّة للرجال السود، ويستهدف الجسد الأسود في الأماكن العامة في حين يكون مهووسًا به في الإطار الخاصّ كعنصر استهلاكيّ؛ فإنّ عرض العلاقة الجنسيّة بين شيرون وصديق طفولته كيفن ليس فعلًا متطرِّفًا في حدّ ذاته. بدلًا من ذلك، يبدو حجب ذلك الاتصال عن الرأي العام تصرفًا متطرّفًا؛ فهو يحافظ على مساحة لممارستهم الجنس وعلاقاتهم الحميميّة، ويركّز انتباهَنا على حقيقة علاقاتهم الحميميّة وأسلوب التنقّل فيها، لا على بعض الافتراضات بأنّ الجنس في حد ذاته سيبعثر الذات وصولًا لشيء جديد؛ كما يصوغها -على نحو شهير- ليو بيرساني.
ويتفق مسلسلا Vida وFalling for Angels على أنّ هناك حاجة إلى القابلية للتأثّر، فيما وراء الجنس والهويّة الجنسية وحدهما؛ فضلًا عن الحاجة -إلى جانب ذلك- لتأصيل ثقافيّ أكثر سعةً عن الشذوذ.
في ضوء ذلك، يستكشف المسلسلان مُحيطًا ثقافيًّا كان تاريخ الشذوذ والعديد من الرؤى الاستفزازية حول الجنس المثليّ في التلفزيون والأفلام قد قدّموا القليل من الجهد في استكشافه خارج حدود فكرة سيادة اللون الأبيض للبشرة.
في نهاية المطاف، فإنّ مغزى الشذوذ في مثاله الأعلى، فهو ليس تصرُّفًا جنسيًا مُعيّنًا أو سلوكًا أو حتى تعريفًا منفصلًا (هوية جنسيّة منفصلة)؛ ولا هو مجموعة ضيّقة محدّدة من الممارسات الثقافية، والتي غالبًا ما تكون لها تاريخها استبعاديّ الخاصّ.
يشكل التوسّع إلى ما وراء حدود التاريخ المُعقّد، أحيانًا، للشذوذ يُقدِّم أشكالًا وتعبيرات وسياقات وتجارب جديدة
ويوسّع كلًّا من Vida وAngels مداركَ الرؤية السائدة عن الشذوذ من خلال تاريخ ثقافي غالبًا ما يُترَك على هامش الأفلام والمسلسلات التي تتحدث عن الشواذ. فعلى طوال الخط، يشكّكون في التحرُّر الذي يقدّمه التشظّي الجنسيّ وفي القدرة المُفرَطة للجنس المثلي، في حدّ ذاته، على إتلاف حياتنا.
إنّ التوسّع إلى ما وراء حدود التاريخ المُعقّد -أحيانًا- للشذوذ يُقدِّم أشكالًا وتعبيرات وسياقات وتجارب جديدة. ما نحتاجه الآن أكثر من أيِّ وقت مضَى يتمثل في فنون تتناول العلاقة الحميمة (للشواذ) التي تعطي امتيازاتٍ للتجربة المصغرة باعتبارها الهدف الأساسي للاستكشاف.
يبدو ذلك بالنسبة لي أمرًا يجعل الشذوذ، إذا كان بشكل صحيح، فهو أمرٌ ممكن؛ وأنّ أعمالًا درامية مثل Falling for Angles وVida تجعله متاحًا بشكل فريد.
اقرأ/ي أيضًا:
حوار عن الجنس والموت والكتابة مع تشاك بولانيك مؤلف "Fight Club"