رغم مرور أكثر من خمسة عقود على إنتاجه، يظل فيلم "أم العروسة" (1963، عاطف سالم) واحدًا من أفضل الأفلام المصرية الاجتماعية. بقصة للكاتب عبد الحميد جودة السحّار وسيناريو لعبد الحي أديب، يرسم عاطف سالم بورتريهًا حميميًا وصادقًا لأسرة مصرية في قاهرة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عبر حكاية بسيطة عن رب أسرة مصرية كبيرة ومعاناته في تدبير تكاليف زيجة ابنته الكبرى.
رغم مرور أكثر من خمسة عقود على إنتاجه، يظل فيلم "أم العروسة" واحدًا من أفضل الأفلام المصرية الاجتماعية
الأسرة المصرية في فيلم "أم العروسة" تأتي بتقاليد وطقوس راسخة، مفتقدة الآن لأسباب اجتماعية واقتصادية يطول شرحها. في قلب حكاية الفيلم أسرة مصرية مكونة من الأب حسين أفندي مرزوق (عماد حمدي) أمين خزينة في مصلحة حكومية متزوج من زينب (تحية كاريوكا) وله سبعة أبناء: أحلام (سميرة أحمد) حصلت على الثانوية وجلست في البيت تنتظر العريس، نبيلة (مديحة سالم) مازالت في المرحلة الثانوية وتريد دخول الجامعة، سامي (سليمان الجندي) فى الإعدادية، مراد (عبد الرحمن العربي) فى الإعدادية ويهوى العزف على الكمان، سوسن (إيناس عبد الله) في الابتدائية، منير (عاطف مكرم) الولد الشقي، وهالة الرضيعة.
اقرأ/ي أيضًا: سينما مصر.. سينما يوليو: مسار وتجارب
تتعرّف أحلام على ابن خالة صديقتها فوزية في حفل خطوبة الأخيرة، ويعجبان أحدهما بالآخر، لتأتي عائلة الشاب تطلب يد الفتاة الجميلة. تتفق الأسرتان على تفاصيل الخطوبة ويقرأون الفاتحة ويدفع والد العريس المهر، ولا يتبقى لأسرة العروس سوى الإسراع بإحضار جهاز ابنتهم. من نقود المهر، يدفع حسين أفندي مبلغًا مقدمًا لعمل موبيليا شقة الزوجية، انتظارًا لاستبدال معاشه لدفع باقى الثمن، ولكن ينتهي النجارون من صنع الموبيليا قبل صرف مبلغ المعاش. هنا تبدأ المشاكل والمشادات. أم العريس تستغل الفرصة لتعلن رغبتها المبيتة بتزويج ابنها لابنة خالته "خلال أسوع واحد فقط"، لكن ابنها الشاب يرفض خطط أمه ويتمسك بخطيبته، ليكون الدور على حسين أفندي ليقدّم تعهّده بإتمام الزواج "خلال أسبوع واحد فقط". كيف سيدّبر الموظف البسيط المال اللازم؟ سيمدّ يده إلى العهدة المالية ليقتطع منها مبلغًا يستكمل به فرح ابنته، على أن يسدد المبلغ حال صرف استبدال المعاش.
لعل العرض المتكرر للفيلم الجميل يحمل إلينا العديد من الإشارات والرسائل. حجرة النوم "العمولة" التي تسعى الأسرة لإكمالها تكلفت مئة وعشرين جنيهًا يعجز الأب الموظف عن تدبيرها،. الفرح فوق سطوح العمارة التي يسكنون فيها، وهي عادة مندثرة تمامًا الآن: ميكروفون وبضع دزينات كراسي وراقصة متواضعة وسندويتشات منزلية الصنع، الأسرة استأجرت طباخًا ليوفّر عشاء ساخنًا للمدعوين، الذين هم من الأهل والأقارب والأصحاب والجيران. لم تكن بدعة إقامة الأفراح في فنادق السبعة نجوم أو قاعات الأفراح أو النوادي النيلية قد ظهرت حينها، حيث يتكلف الحفل الواحد مبلغًا من خمسة أرقام، قبل أن يبتدع الأغنياء الجدد موضة إقامة الأفراح والليالي الملاح في ربوع اليونان عبر طائرات خاصة تنقل المعازيم إلى هناك.
في رسالة واضحة يؤكد "أم العروسة" أن مرتب الموظف المحدود كان يكفي تعليم الأولاد وتزويج البنات، ولولا تأخر فلوس استبدال المعاش لما اضطر حضرة الموظف المحترم لمدّ يده. واستبدال المعاش كان تقليدًا وظيفيًا، انقرض هو الآخر، يلجأ إليه الموظفون الحكوميون لمواجهة الأزمات الطارئة والمناسبات التي لا تخطر على بال. لم يعرف المجتمع حينها في الخمسينات والستينات ظاهرة الدروس الخصوصية وكلفاتها المالية التي تبتلع مداخيل ملايين من الآباء المصريين، فكانت الأسرة تجتمع مع نفسها للمذاكرة وأداء الواجبات المدرسية والمنزلية. لم يكن التلفزيون قد ظهر وقت أحداث الفيلم، والأسرة متماسكة متحابة في غياب صندوق الدنيا وبرامج التوك شو ومسلسلات الضحك على الذقون وتكليس العقول. ثم هناك ملاحظة تتعلق بالعلاقة الوطيدة بين زملاء العمل، المسلم والمسيحي، يتشاركان الهموم والمشكلات وتفاصيل الحياة اليومية، ويتقاسمات الودّ والمشاركة ويساندان بعضهما البعض. الثقة ليست غائبة، والدار أمان، كما يقول حسين أفندي، فلا داعي لمراجعة النقدية التي يقذفها له زميله مرقص أفندي ليحفظها في الخزينة.
اختير "أم العروسة" ضمن أفضل مئة فيلم مصري محتلًا الرقم 17 في القائمة، ورشّح لتمثيل مصر في مسابقة الأوسكار عام إنتاجه
وحتى مبلغ الاختلاس الذي كان ضخمًا بمقاييس ذلك الزمان، مئة وخمسون جنيهًا، والزوجة تهتف: "يا مصيبتي". مئة وخمسون جنيهًا كانت كافية للزج بأحدهم في السجن!
اقرأ/ي أيضًا: أرض يوسف شاهين.. أين ذهب الرجّالة؟
"أم العروسة" لا يزال يبعث إلينا بالرسائل الموحية والمشاهدة الممتعة التي لا تملّ منها أبدًا، وليس غريبًا أنه اختير ضمن أفضل مئة فيلم مصري محتلًا الرقم 17 في القائمة، ولا ننس أنه ترشّح لتمثيل مصر في مسابقة الأوسكار عام إنتاجه.
اقرأ/ي أيضًا: