في صوت أنوار عبد الوهاب ما يلفت الانتباه، بل ويستدعي التساؤل أيضًا حول أسباب غيابها، وضيق الحيز الذي تشغله أعمالها اليوم، مع أنها واحدة من أكثر المغنيات شهرةً في العراق خلال سبعينيات القرن الفائت وحتى أواخر ثمانينياته. والملفت أكثر مما سبق أن صوتها هذا ما كان ليكون متاحًا لولا منصة "يوتيوب"، حيث لا يزال هناك من يتذكرها ويذكِّر بها.
لن نكترث بما تقوله أنوار، بل بالطريقة التي تفعل بها ذلك. ولن تكون الكلمات مهمة، وإنما الصوت ذو النبرة القائمة على ألمٍ لا تخطئه الأذن
أنوار عبد الوهاب ليست نجمة بالمعنى الذي تحيل إليه هذه المفردة، كما أنها ليست من المغنين العراقيين الذين لا بد أن تستوقفنا أسماؤهم لكثرة تداولها، مثل ياس خضر، سعدون جابر، حميد منصور، وغيرهم ممن جايلتهم الفنانة العراقية التي غابت عن المشهد، في الوقت الذي كان يكرس فيه الآخرون أسماؤهم في متنه.
اقرأ/ي أيضًا: أبو غابي.. صوتٌ بنفاسة المخطوطات
وللاسم أهميته هنا، فاللقاء الأول مع مغنٍ ما، غالبًا ما يكون مع اسمه المتداول بين الناس. فعلى سبيل المثال، لا بد أننا سمعنا باسم ناظم الغزالي، أم كلثوم، فيروز.. إلخ، قبل سماع أصواتهم. ولكننا لن نلتقي بأنوار إلا من خلال صوتها، وغالبًا عبر صدفةٍ ما، كأن نصادف مقطعًا من إحدى أغنياتها في مواقع التواصل الاجتماعي، الحسابات المعنية بالأرشيف العراقي تحديدًا، أو في منصات مثل "يوتيوب" و"ساوند كلاود"، فيدفعنا صوتها حينها إلى البحث عنها.
والباحث عن أنوار عبد الوهاب على الإنترنت لا بد أن يعود خالي الوفاض إلا قليلًا، ذلك أنه لن يعرف عنها أكثر من أن اسمها الحقيقي ناديا عبد الجبار الوهبي، وأن والدها كان كاتبًا يساريًا معروفًا بنقده اللاذع للسلطة، وأنه قُتل إثر انقلاب شباط/ فبراير عام 1963. كما سيعرف أيضًا أنها ولدت في مدينة الناصرية عام 1945، ودخلت المشهد الفني العراقي مطلع السبعينيات من بوابة "فرقة الإنشاد"، وانسحبت منه أواخر الثمانينيات عند مغادرتها العراق نحو الأردن، ومنه باتجاه السويد، لأسبابٍ قيل إنها سياسية.
لم تستمر أنوار أكثر من عقدين من الزمن إذًا في الغناء. وشاءت الصدفة أن تكون الفترة التي ظهرت فيها هي الحقبة الذهبية، إذا صح التعبير، للأغنية العراقية. حقبة احتشد فيها عدد هائل من المغنين المتميزين مثل ياس خضر، حميد منصور، سعدون جابر، حسين نعمة، وغيرهم ممن استطاعوا تكريس أنفسهم وحمْلِ الآخرين على تذكرهم دائمًا، عكس أنوار التي قررت، رغم نجاحها في إيجادٍ حيز لها بينهم، الانسحاب من المشهد وتكريس غيابها بدلًا من حضورها في متنه.
لا نقول إن صاحبة "دادة حسن" مجهولة تمامًا اليوم، ولكنها ليست معروفة مثل بقية أبناء جيلها، وهذا مثير للاستغراب بلا شك، خاصةً وأن الأغنيات التي قدمتها خلال سنوات نشاطها تكفي للبرهنة على فرادة صوتها وتميزه عن بقية أصوات تلك الحقبة من جهة، والجزم بأنها ليست فنانة عابرة في المشهد الفني العراقي من جهةٍ أخرى. وهذا بالضبط ما أدركه كبار الملحنين العراقيين في تلك الفترة، مثل محمد جواد أموري، وأحمد خليل، ومحسن فرحان، وسالم عبد الكريم، وغيرهم من الملحنين الذين أجمعوا على أن صوتها يجب ألا أن يبقى على الهامش.
ولم تكن أنوار عبد الوهاب على الهامش في تلك الفترة، وما كانت لتنتهي إليه اليوم لولا غيابها في بداية مشوارها. هذا على الأقل ما تقوله أغانيها المنشورة على منصة "يوتيوب"، ويؤكده صوتها الذي يجعل من نفي ما سبق أمرًا صعبًا، ذلك أن فيه ما يخطف الأذن ويشدها إليه فور الاصطدام به.
وعند اللقاء الأول بصاحبة هذا الصوت، لن نكترث بما تقوله، بل بالطريقة التي تفعل بها ذلك. ولن تكون الكلمات حينها مهمة، وإنما الصوت ذو النبرة الهادئة والقائمة على ألمٍ لا تخطئه الأذن، ولا يتعلق بطبيعة الأغنية بقدر ما يتعلق بشيءٍ ما في داخل أنوار ذاتها، مقتل والدها على الأغلب، الأمر الذي يؤكد أن الألم الذي تفيض به بعض أغانيها ليس مصطنعًا، بل هو ألمٌ جوهري متجذر في داخلها. وبوسعنا القول إن هذا الألم هو أحد أهم ركائز تلك النبرة الهادئة، بل وربما الخجولة، التي يتميز بها صوتها.
تغنّي أنوار عبد الوهاب بطريقةٍ تبدو فيها وكأنها تخشى الغناء ذاته، وهذا الانطباع مردُّه الخجل الذي يشوب صوتها، ويظهر جليًا على ملامحها جنبًا إلى جنب الأسى الذي لا تغني عنه، وإنما تغني من داخله تمامًا. بل أكثر من ذلك، يمكن القول إنها تغني بشيءٍ من الحرج والتعب اللذان جعلا صوتها هادئًا بهذه الطريقة الملفتة للانتباه، تمامًا كما لو أن غناء الألم لا بد أن يكون هادئًا، خافتًا، وقريبًا من البوح.
في نظرة أولى، تبدو أغاني أنوار مألوفة ومعتادة ولا تبتعد عن الحزن والشجن اللذان رافقا الأغنية العراقية طيلة عقود. غير أن المألوف والمعتاد يبدو مدهشًا حين تؤديه بأسلوبها القائم على عفوية مرتبطة بخجلها وألمها الذي ينسج تفاصيل صوتها، الذي يطغى على كلمات أغانيها، والذي لا يسع المستمع أمامه إلا الجزم بأن صاحبته إنما جاءت إلى الغناء من جرحٍ شخصي، وأن نبرته هذه تعبّر عما في داخلها، وأن أدائها ليس إلا انعكاسًا له ولشعورها المرير بالحياة.
ومن بين جميع أغانيها، هناك ثلاث أغنياتٍ تجسد ما ذكرناه بدقة، وهي: "عد وأنا عد"، و"غربة وتمر الليالي"، و"على حطة إيدك"، التي تتماهى فيها الكلمات مع الموسيقى والصوت، فتضعنا إزاء عملٍ إن لم يكن فريدًا، فهو خاص بطريقةٍ أو بأخرى.
"عد وأنا عد" هي أشهر أغانيها، ولكنها ليست الأكثر تعبيرًا عن فرادة صوتها، وعن تلك النبرة المحملة بالشجن والأسى الذي تغنّي من داخله. تقول فيها: "عد وأنا عد ونشوف/ ياهو أكثر هموم/ من عمري سبع سنين/ وقليبي مهموم/ راحو ويلي/ راحو بعد ما ردو حبابي". وتختمها بقولها: "يل ما عليك هموم/ عونك يا هل الماي/ جاخنيبت ومحيت لو بيك الي وياي"، ومعنى المقطع الأخير أنه كان ليفيض مثل النهر لو حمل ما تحمله من هموم.
وعدا عن أنها أكثر أغانيها شهرةً، تكاد "عد وأنا عد" أن تكون الأغنية الوحيدة التي يعلوا فيها صوت عبد الوهاب، على العكس تمامًا مما نراه في أغنية "غربة وتمر الليالي" التي لا يمكن تجاهل الألم الذي تفيض به، ليس لناحية الكلمات فقط، بل لجهة الأداء الذي تماهى مع الكلمات وموسيقى محمد جواد أموري بشكلٍ ضاعف من حضور الألم في الأغنية. تقول: "غربة وتمر الليالي/ لا انت ناسي ولا اني سالي/ ولا إلي لسان ليقلك/ أني ما أكدر أملّك/ وانت حاير.. مثل حالي/ غربة وتمر الليالي".
وتضيف: "تسافر الأشواق بينا/ دنية عيونك عتاب/ بية قد ما بيك لهفة/ ضل سؤال بلا جواب/ يا هو منا ليبتدي بأول رسالة؟/ يا هو أول يشتكي للناس حاله؟/ اثنين نذوب على سكته/ والعمر يطوينا سكتة/ وأنا وانت الشيب مر بينا ولا كلمة حجينا/ وانت حاير مثل حالي/ غربة وتمر الليالي".
ليس بوسع من يسمع أنوار عبد الوهاب، ويأخذ بعين الاعتبار طريقتها في الغناء، سوى الجزم بأن الألم أساس تجربتها
بالإضافة إلى هاتين الأغنيتين، هناك أغنية ثالثة تجسد بدورها النبرة الهادئة، بل الخجولة، التي يتسم بها صوت أنوار عبد الوهاب، إذ تبدو في الأغنية وكأنها تغني محرجة، ولكن دون أن يغيب الأسى عنها. تقول في هذه الأغنية: "على حطة إيدك ما تغيرنا/ أهل ابتسامة شما تمرمرنا/ مطرت علينا إحنا بلا غيم/ ما بيّن على وجوهنا الضيم/ ما ننحزر.. نتمنى لحزرنا/ ما ننحزر بس وينه لحزرنا/ على حطة إيدك بيتنا هناك/ مفتوح لأخبارك الشباك/ حفنة صور تجمعني وياك/ هالكد تعاتبني صورنا".
اقرأ/ي أيضًا: بليغ حمدي.. أكبر من النسيان
هذه الأغنيات الثلاث هي الأكثر تعبيرًا عن خصوصية أنوار عبد الوهاب وفرادة صوتها. كما أنها أكثر أغانيها لفتًا للانتباه لناحية التماهي الفريد بين الغناء والكلمات والموسيقى من جهة، والألم الذي يفيض به صوتها من جهةٍ أخرى. ولهذا السبب، ليس بوسع من يسمع أنوار، ويأخذ بعين الاعتبار طريقتها في الغناء، سوى الجزم بأن الألم أساس تجربتها التي لم يكتب لها أن تستمر، ربما لأن البوح دائمًا ما يكون مؤقتًا.
اقرأ/ي أيضًا: