رفعت حركة مناهضة الحرب في الولايات المتحدة الأمريكية شعارًا لافتًا، يقول: "جيد للبعض.. سيئ للكل". كانت حركات مناهضة الحرب كالنار، تغذيها الاحتجاجات الطلابية في الجامعات والشوارع، والتي كانت احتجاجات غاضبة مثلت صداعًا كبيرًا للسلطة، واستطاعت أن تلفت انتباه الناس في الولايات المتحدة إلى تأثيرها، وخاصة على شبابها الذين كانت ترقبهم عائلاتهم وهم يُحملون في أكياس الأرز بفيتنام، ويُرسل ما تبقى من جثثهم إلى أهلهم.
في البداية اعتقد الأمريكيون أن حرب فيتنام هي من أجل المصلحة الوطنية، ومع طول أمدها تبين لهم أنها حرب خاسرة لا جدوى من ورائها
كانت الخسارة فادحة لأقصى درجة، وإن كانت الولايات المتحدة قد تعلمت شيئًا من حربها في فيتنام، فعلى الأرجح أنّه "لتدير حربًا، فإنها يجب أن تحظى بتأييد شعبي".
اقرأ/ي أيضًا: انسحاب الضرورة لا السلام.. عن أكاذيب البروباغندا الأمريكية حول حرب فيتنام
و لكن لماذا لم يعد يُسمع صوت لحركات مناهضة الحرب اليوم، وقد دخلت الولايات المتحدة أكثر من حرب وغزو؟ ولماذا خفتت أصوات الاحتجاجات في الجامعات والشوارع؟ وكيف عمل الخطاب الإعلامي والسياسي في الولايات المتحدة، على تهميش هذه الأصوات، أو بالأحرى إخماد شعلتها؟
التاريخ والبداية
بدأت الحرب على فيتنام، فاعتقد الأمريكيون أن الحرب على الشيوعيين في فيتنام، هي حرب من أجل المصلحة الوطنية للبلاد، وأن الشيوعية تهدد الحكومات الحرة في العالم.
واستمرت الحرب في فيتنام إلى الحد الذي جعل الأمريكيين يعيدون النظر فيما اعتقدوه سابقًا، وقد طال أمد الحرب حتى باتت الخسائر العسكرية الأمريكية بادية للعيان. ومن الجانب الآخر، الفيتناميين، فقد قُتل منهم عشرات الآلاف، واستخدمت الولايات المتحدة الأسلحة الكيميائية.
كان متوسط عمر الجندي الأمريكي الذي يخدم في الحرب وقتها 19 عامًا، أي أقل بسبع سنوات كاملة من نظيره الذي كان يقاتل في الحرب العالمية الثانية. ما رآه الأمريكيون العاديون كان مثيرًا للدهشة والفاجعة أيضًا، فالكثير من الجنود المقاتلين، كانوا يُدفعون للتجنيد والقتال في فيتنام، في حين أنهم كانوا ممنوعين بالقانون من تناول الحكول في الولايات المتحدة لأنهم أصغر من السن.
وكان مجمل المشاركين في الحرب من الأمريكيين ذوي الأصول اللاتينية والأفريقية، أما البيض فمعظمهم أُعطوا وظائف مكتبية.
أصبح الأمريكيون أقل شعورًا بتأثير الحرب في الخطاب الإعلامي، إذ بات العسكريون أكثر تحكمًا في الأخبار والرسائل الإعلامية
في أواخر الستنينات و مع شعور عام اجتاح المطالبين بوقف الحرب، بتجاهل الحكومة لهم، بدؤوا في التصعيد، فتحولت مظاهراتهم السلمية إلى بعض العنف. احتل الطلاب المباني الجامعية، وأُلغيت صفوف الدراسة لبعض الوقت.
اقرأ/ي أيضًا: 9 حقائق هامة ينبغي ألا ننساها عن الغزو الأمريكي للعراق
حدثت الكثير من التطورات منذ اندلاع الاحتجاجات التي صمم فيها المتظاهرون على مغادرة فورية وسريعة لكل القوات الأمريكية من فيتنام. وفي كانون الثاني/يناير عام 1973، تم التوصل إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار، وسُحبت بقية القوات الأمريكية المقاتلة في فيتنام، ودعا نيكسون وقتها إلى اتفاق أسماه "السلام مع الشرف"، وكان من أهم بنود الاتفاق الإفراج عن 600 أسير حرب أمريكي، قضوا سنوات طوال في غياهب الأسر. وكان لرجوعهم فرحة كبيرة لدى جماهير الشعب الأمريكي. جدير بالذكر أن حرب فيتنام، كلفت الولايات المتحدة 110 مليارات دولار، وخلفت وراءها 58 ألف قتيل و304 ألف مصاب.
لماذا خفتت أصوات مناهضة الحرب في الولايات المتحدة؟
في تقرير نشره موقع الإذاعة العامة الوطنية الأمريكية، أشارت البروفيسور سيليا كوك هوفمان، أستاذة حل النزاعات في كلية جونياتا في هنتينغدون، إلى أنّه "منذ هجمات أيلول/سبتمبر 2001 على مركز التجارة العالمي والبنتاغون، كانت المشاعر المناهضة للحرب مشوشة بسبب الحرب على الإرهاب، الأمر الذي يجعل العدو "مخيفًا جدًا وغامضًا جدًا، لذلك فقد شعر الأمريكيون في غزو أفغانستان، أن الولايات المتحدة لا تهاجم الأفغان الأبرياء، بل الأفغان السيئين فقط"!
كما تشير هوفمان إلى أن الأمريكيين باتوا أقل شعورًا بتأثير الحرب في الخطاب الإعلامي على مجرى حياتهم، حيث بات العسكريون في الولايات المتحدة أكثر تحكمًا في الأخبار الواردة، مُضيفةً: "لقد أصبح الجيش أكثر ذكاء بكثير عن كيفية تأطير القصة وتصفية المعلومات، بحيث أصبحت القصص التي نثير الغضب وتتطلب استجابة أخلاقية من الصعب العثور عليها".
وعلى الرغم من ضآلة تلك التحركات الآن، فإن ما وُجد منها، يتعرض للهجوم، ففي 19 آذار/مارس 2009 على سبيل المثال، اعتقل عدد من المتظاهرين المناهضين للحرب، بمناسبة الذكرى الثامنة للغزو الأمريكي للعراق، من أمام البيت الأبيض.
من المهم ملاحظته، أنه في عهد دونالد ترامب حدث تصعيد كبير لفكرة الحرب على الأرض،عن ذلك تتحدث صحيفة ذي أتلانتيك عن ملامح هذا التصعيد في مقال لها بعنوان: "اجعلوا حركات مناهضة الحرب عظيمة مرة أخرى"، فتقول: "آخر الفظائع كان مقتل ما لا يقل عن 200 مدني عراقي من الضربات الجوية الأمريكية في الموصل. وقد سبق ذلك قبل بضعة أيام حين قُتل عشرات المدنيين السوريين في محافظة الرقة عندما استهدفت الولايات المتحدة مدرسة لجأ إليها الناس، وهو ما سبقه قبل أسبوع تدمير الولايات المتحدة لمسجد بالقرب من حلب قُتل فيه أيضًا العشرات. بالإضافة إلى المجزرة التي نفذتها البحرية الأمريكية وقتل فيها 30 يمنيًا".
وإجمالًا، فإن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في سوريا، يحتل المركز الثاني من حيث أعداد القتلى المدنيين الذين سقطوا بقصفه، مباشرة بعد قوات النظام السوري والمليشيات الأجنبية الداعمة له.
وقدم موقع غلوبال ريسيرش فقد قدمت قراءة أعمق للأسباب الحقيقية التي دعت إلى تراجع حركات مناهضة الحرب، فتُرجع ذلك إلى أن النشاط الاجتماعي في المجتمعات الغربية وفي الولايات المتحدة تحديدًا، هي "أنشطة وهمية وموجهة" خاصة وأنه يتم تمويلها من قبل السلطات التي من المؤكد أن لها أغراضًا أخرى من ورائها.
ففي حين تُصور الحرب على اليمن على أنها حرب أهلية، يعرف الجميع الدور الخبيث الذي تلعبه السعودية مع حليفتها الولايات المتحدة في هذه الحرب، حتى الحرب السورية التي تتدخل فيها أطراف أجنبية عدة، أيضًا يقدمها الخطاب الإعلامي الغربي على أنها حرب أهلية.
باتت الحركات المناهضة للحروب في الولايات المتحدة ضحيةً للتضليل الذي تقوم به الإدارات الأمريكية لتغطية جرائمها العسكرية الخارجية
وبل ويذهب غلوبال ريسيرش لأبعد من ذلك حين يقول إن قطاعات الحركة المناهضة للحرب التي عارضت غزو العراق عام 2003، تدعم ضمنيًا ضربات ترامب العقابية الموجهة ضد نظام الأسد السوري، لولا أن الكثير من الضربات تقتل المدنيين وليس عسكريي نظام الأسد!
الحركة المناهضة للحروب في الولايات المتحدة باتت معزولة، في حين تُشجّع حركات احتجاجاية أُخرى، تلك الموجهة لقضايا كالبيئة وحقوق المرأة وحقوق المثليين.
اقرأ/ي أيضًا:
إستراتيجية ترامب للأمن القومي.. صورةٌ جديدة للغطرسة الأمريكية القديمة