01-فبراير-2017

(Getty) مبارزة من فيلم "هاملت" للورنس أوليفيه

ليس هناك من يمكنه معارضة قول هاملت المأثور في أن الغرض من التمثيل هو "أن يكون كمرآة تعكس الطبيعة"، إلا أن هذه العبارة بسيطة لدرجة أنه من الصعب فهمها، فما هو النوع الخاص من المرايا الذي كان في عقل هاملت عندما صاغ هذه العبارة التذكيرية؟

غوته: المبرر الوحيد لوجود الأعمال الفنية هو اختلافها عما هو موجود في الطبيعة

من المؤكد أنه لم يكن يقصد ذلك النوع ذا الانعكاس الواضح والمسطح الذي نستخدمه لتمشيط شعرنا، فبالنسبة لمرآة من هذا النوع، من شأنها تصوير الحياة بمثل هذه الدقة الشديدة، نجد أننا لا نجني أي نفع من النظر في ما تعكسه أكثر مما تعكسه الحياة نفسها. فإذا كنت أودّ رؤية إبريق الشاي الموضوع على طاولة الكتابة أنظر إلى إبريق الشاي مباشرة، فأنا لا أضع مرآة وراءه ثم أنظر في المرآة لرؤيته. ولكن لنفرض أن لدي مرآة سحرية يمكنها عكس ذلك الإبريق على نحو يُظهر لي ليس فقط شكله الخارجي بل يظهر لي أيضًا كمية الشاي التي بداخله، في هذه الحالة الأخيرة يمكن أن تتيح النظرة في الصورة المنعكسة فحصًا أكثر دقة للهدف الفعلي.

اقرأ/ي أيضًا: هوية أفريقيا.. من المسرح المفتوح إلى وهم الاستقلال

والآن، لا بد أن هاملت كان يعني مرآة سحرية كتلك التي يمكنها، بطريقتها في عكس الحياة، أن تجعل الحياة أكثر وضوحًا. ولذلك قال غوته ذات مرة إن المبرر الوحيد لوجود الأعمال الفنية هو اختلاف تلك الأعمال عما هو موجود في الطبيعة، فإذا قدّم لنا المسرح ما نراه فقط في الحياة ذاتها، فليس هناك معنى على الإطلاق في ارتياده. لزامًا على المسرح أن يقدّم لنا ما هو أكثر من ذلك.

والمفارقة المثيرة للاهتمام هنا أنه لكي يُرينا المسرح أكثر، عليه أن يعرض لنا أقل، أي يجب على المرآة السحرية أن ترفض انعكاسًا غير ذي صلة وغير ضروري، وبالتالي أن نركّز الانتباه على ما هو وثيق الصلة وعلى الجوانب الأساسية للطبيعة. هذه المرآة هي الأفضل حيث تعكس القليل من غير الضروري، ونتيجة لذلك فهي تعكس الكثير مما يعنينا على نحو واضح وجلي. فالصدق في الحياة الفعلية مدفون تحت ارتباك الحقائق، معظمنا يبحث عنه عبثًا، وكأننا نبحث عن إبرة في كومة قش. وفي هذا البحث المضروب به المثل، علينا ألا نتوقع أو ننتظر أي فائدة من النظر في صورة كومة القش المنعكسة عبر مرآة عادية، ولكن تخيُّل مرآة مزوَّدة بسحر انتقائي يجعلها لا تعكس القش، بل يمكنها أن تعكس الأرضية التي وُضع عليها القش وتتخلل بين أجزاء الكومة، فبالتأكيد سيكون هناك مبرر عملي وفعَّال لحمل تلك المرآة السحرية في مواجهة الطبيعة.

إن الانتصار الحقيقي والوحيد للفنان ليس أن يُظهر لنا كومة القش، بل أن يجعلنا نرى الإبرة المدفونة فيه، أي لا يعكس بهارج الحياة ومنظوماتها الظاهرية، وإنما بواطن الأمور وواقعها الإنساني. إن الثناء على مسرحية ما لدقتها في تصوير الحقائق يمكن أن يكون مغالطة نقدية، فالسؤال المهم ليس كيف عكستْ المسرحية مظاهر الحياة على نحو واضح ودقيق، ولكن كيف ساعدت الجمهور على فهم معنى الحياة؟ ولذا لا نستغرب أبدًا حين نجد، في مرات كثيرة، أن عملًا مسرحيًا قديمًا قد كشف معانٍ للحياة أكثر مما تكشفه لنا عروض حديثة خالية من تلك المرآة السحرية، فليس هناك أي تأثير في الانعكاس ما لم يكن هناك بعض السحر في المرآة. 

يكمن انتصار الفن في أن لا يعكس بهارج الحياة، وإنما بواطن الأمور وواقعها الإنساني

وهناك من يضعون ضمن ديكور العرض قاطرة حقيقية ظنًا منهم أنهم فعلوا ما لم يستطع أي فنان فعله، والسؤال هو ما الذي يرغمنا على دفع نقود لرؤية قاطرة في المسرح في حين يمكننا أن نرى عشرات القاطرات في الشوارع والكراجات دون أن نتكلف أي شيء؟ أعتقد أننا لن نُرغم على ذلك إلا إذا كشف لنا المؤلف الدرامي، بفعل خياله، عن الغموض الإنساني الذي يحيط بخفقان قلب نابض، وليكن قلب مهندس القاطرة، لا القاطرة ذاتها. فليس الفن في إيجاد قاطرة على خشبة المسرح، وإنما في ما استطاع المؤلف أن يكشفه لنا، وأعتقد أن هذا الشيء لا يمكننا رؤيته في الشوارع والكراجات، إلا إذا امتلكنا عيونًا كعيون كاتب الدراما نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: "ثياترو" الموريتانيّ.. إشكالية التأسيس

وليس لزامًا على الدراما أن تجعل الحياة أكثر فهمًا فحسب (وذلك بالتخلص من غير ذي الصلة وجذب الانتباه لما هو ضروري)، بل لزامًا عليها أيضًا أن تجعلنا المحور الأساسي في الجانب الذي تعرضه من الحياة. يجب أيضًا أن تكون المرآة التي يحملها الكاتب للطبيعة مرآة مقعرة حيث يمكنها أن تركّز الأشعة التي تصطدم بها إلى صورة بؤرية مضيئة. ومن المؤكد أن هذا الشكل للمرآة المقعرة، بظاهرته في التركيز، يُعيد على نحو إيجابي، وبشكل كبير، تصوير اعتقاد هاملت المتعلق بالغرض من التمثيل والمسرح نفسه. 

إن مشكلة غالبية كتاب الدراما أنهم يقدمون صورًا مبعثرة وغير متسقة للحياة، فهم يخبروننا بأشياء عديدة غير هامة، بدلًا من إخبارنا بشيء واحد هام بطرق مختلفة وعديدة، فما يكشفونه لنا من "معاني الحياة" قليل لأنهم يعيدون إنتاج أو تقديم الكثير من مظاهرها (الحياة) على نحو غير مكثف، فالتكثيف بفعل التركيز البؤري يجعل الفكرة الواحدة متوهجة طوال مدة العرض على الخشبة. وأخيرًا، فالمرآة السحرية بمفهومها السابق تعكس فنًا، بينما تعكس المرآة العادية حياة لا حاجة لانعكاسها.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مسرحية "ليكستا".. الجزائر عاريةً

مورغان فريمان.. أسعى لتحقيق السعادة والسكينة