هذه ترجمة مقطع من الفصل الأول من رواية "إيلين" (Eileen) للكاتبة الأمريكية من أصل إيراني "أوتيسا موشفيغ" (Otessa Moshfegh) وهي رواية وصلت للقائمة القصيرة لجائزة المان بوكر عام 2016. وفازت بجائزة القلم (PEN)/إرنست همنغواي عام 2016، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة دائرة نقاد الكتب الوطنية الأمريكية.
لعلي فتاة قد تتوقع رؤية الكثير من مثيلاتها في حافلة عامة في المدينة، تمسك بين يديها كتابًا مستعارًا من المكتبة عن النباتات أو الجغرافيا، وترتدي شبكة على رأسها تثبت بها شعرها البني الخفيف. ربما تحسبني مشروع ممرضة أو سكرتيرة، بناء على ملاحظتك للتوتر الذي تفضحه يداي المرتجفتان، والطريقة التي أعضّ بها على شفتي، والنقر الدائب برأس قدمَي على أرضية الحافلة. ربما لن يراودك لو نظرت إليّ أنني أختلف كثيرًا عن بقية الصبايا.
من السهل أن أتخيل بنتًا كهذه، نسخة غريبة وشابة ورثّة منّي، بيدها حقيبة جلد باهتة لا تحمل اسم ماركة معروفة، تأكل من علبة فستق صغيرة، تلف كل حبة بين أصابع يديها قبل أن تلقفها في فمها وتمصها بلسانها وهي تحدق بقلق عبر الزجاج. الضوء من شمس الصبيحة يكشف ما حاولت إخفاءه من نحالة وجهي ببعض البودرة واللون الوردي المتدرج على بشرتي الشاحبة. كنت نحيلة، ذات قوام مدبب كالقلم، بحركات حادّة ومترددة، وجذع متصلّب. ملامح وجهي غائرة وناعمة في آن معًا، تتوزع عليها علامات بثور قديمة تحجب أي بهجة أو جنون أسفل الملامح الخارجية لهذه الفتاة الباردة الموات من نيو إنجلند. لو وضعت نظارات لشكّ من يراني بأني ذكية، ولكني قليلة الصبر بشكل يحول دون أن أكون ذكية حقًا. ستقول لو رأيتني أنه يروق لي حتمًا سكينة الغرف المغلقة، وأني أشعر بالراحة في وحشة الصمت. نظراتي تحوم ببطء فوق الورق، تنظر حولها إلى الجدران، والستائر الثقيلة، لا تفكر في غير ما تقع عينها عليه: الكتاب، والطاولة، والشجرة، والشخص الذي أمامها. لكني أستهجن الصمت وأمقت السكون. كرهت كل شيء تقريبًا. بقيتُ تعيسة جدًا وغاضبة في جميع الأوقات. عبثًا حاولت السيطرة على نفسي، لكني لم أجن من ذلك سوى المزيد من الخرَق والغمّ والكمد. أنا مثل جان دارك أو هاملت، لكني ممزقّة في حياة معجونة بالخطأ، حياة نكرة، لقيطة، غير مرئية. ليس ثمة طريقة أفضل لقولها: لم أكن في ذلك الحين أنا، بل شخصًا آخر. كنت إيلين.
في تلك الأيام، أي قبل خمسين عامًا، كنت فتاة خفيرة. يكفيك نظرة واحدة لتعرف ذلك. اعتدت أن أرتدي تنانير صوف طويلة تستر ما تحت الركبتين، وكلسات سميكة القماش، ودومًا أزر القميص أو السترة إلى أعلى ما يمكن. لم أكن فتاة تلفت الأنظار. لا يعني ذلك أن في مظهري ما يسيء أو يعيب. صغيرة ومتصالحة مع نفسي، متوسطة في معايير الجمال. لكن انقضت فترة خلت فيها دومًا أنني الأسوأ: شنيعة ومقرفة وسمينة يلفظها هذا العالم. في تلك الحالة بدا لي ضربًا من السخف أن ألفت الأنظار نحوي. قلّما استخدمت الحليّ، وحرّمت على نفسي العطور، ولم أضع طلاء الأظافر قط. الإضافة الوحيدة التي تجرأت عليها أحيانا كانت خاتمًا بحجر صغير، ورثته عن أمي.
آخر أيامي كإيلين الصغيرة الغاضبة جاءت في أواخر ديسمبر، في المدينة ذات الشتاء القاسي حيث ولدت ونشأت. هطل الثلج بغزارة حتى تجاوزت سماكته مترًا في معظم المناطق، واستقر بعناد أمام البيوت وعلى حواف النوافذ. خلال النهار تذوب الطبقة العلوية من الثلج قليلًا، ويسيل ردغ الثلج على مهل في المصارف، فأتذكر أن الحياة لا تخلو من البهجة من حين لآخر، وأن الشمس ما تزال تشرق. في المساء، تغيب الشمس، ويتجمد كل شيء من جديد، فيتشكل الجليد فوق الثلج بسماكة حتى تخال أن رجلًا كبيرًا قد يطأه دون أن يتشقق. في الصباحات، أنثر الملح أمام بوابة البيت والممر الضيق أمام المدخل حتى الرصيف. يشكّل الجليد الذائب دلى مدببة متدلية عن الطرف الأمامي للسطح، وكثيرًا ما تخيلتها تهبط من فوقي وتخترق ما بين نهدي، أو تسقط على صفحة كتفي مثل رصاصة طائشة، أو تشجّ رأسي وتحوله إلى شظايا. بادر جارنا بإزالة الثلج المتراكم أمام ممر بيتنا، وهم عائلة لم يكن والدي يرتاح لهم، لأنهم لوثريون وهو كاثوليكي. لكن هذا دأبه مع الجميع. فقد كان مرتابًا ومخبولًا تمامًا وهو السكّير امتدّ به العمر. ترك هذا الجار اللوثري أمام الباب سلة بيضاء فيها التفاح المشمع الملفوف بورق السلوفان، وعلبة من الشوكولاته، وقنينة من النبيذ الأبيض، هدية الكريسماس. ترك بطاقة مكتوبًا عليها: "لتحل عليكما بركة الرب".
اقرأ/ي أيضًا: