06-يوليو-2019

يعج سوق السوشيال ميديا بحالات من الهياج والترهيب (Jon Berkeley)

في تصوري أنه إذا ما أردت فهمًا عمليًا لكيفية سيادة خطاب ما، فانظر لما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي في حدث أو موقف ما: انفعال وهياج، وتكريس كمي، وترهيب وتخويف، واحتكار للصواب والحقيقة الضبابية، فضلًا عن الأساليب التقليدية لمحاولة تكريس خطابٍ ما: تهويل وكذب وتلفيق واستغاثية واستدعاء للمظلومية والمؤامرة، وأحيانًا للرد على المظلومية والمؤامرة!

أصبحت الكذبة الأوسع انتشارًا والتي تمثل فخًا استدراجيًا، هي أن مواقع التواصل الاجتماعي وسائط حرة

وهكذا أصبحت الكذبة الأوسع انتشارًا، والتي تمثل فخًا استدراجيًا، هي أن السوشيال ميديا وسائط حرة. لم تعد كذلك أبدًا، وهناك من يصنعون الرأي العام عليها، ويضغطون بكل أساليب الخطابات التي تسمى بالشعبوية للانجرار نحو التيار العام الذي أسسوا له، وأحيانًا أيضًا للرد على الشعبوية يا سبحان الله! والخروج برأي مختلف ولو جزئيًا، لا يعني مجرد الإنكار عليه، وإنما الدفع نحو الاتهام المباشر، وأحيانًا التقليل بطريقة "إيه اللي جراله ده كان كويس".

اقرأ/ي أيضًا: وحش "الكلام الفارغ".. أو لماذا صرت أخاف من الكتابة

لذلك أسباب عديدة ليس المحل هنا ذكرها، وإن كان من اللطيف الإشارة إلى أنه ربما تمثل هذه أعراض انسحاب نفسي على الهزائم في الحياة التي صنعتها أيدي جيل كامل، تحديدًا شرائح من هذا الجيل في هذه المنطقة، عاشوا على الوهم والتطلعات المنافية للشروط البنيوية لتحقيقها؛ فلمّا حاربوا "الوحوش" صاروا وحوشًا، لكن أسخَف. واستمرار هذه الحالة يستدعي إعادة إنتاج وحوش باستمرار لمحرابتها في المتخيّل. فسخف هذه الحالة أنها متوهمة في بيئة متوهمة، وللواقع شروط أخرى.

على مدار الشهور القليلة الماضية، تتبعتُ بدأب، مبالغات حالة الهياج على السوشيال ميديا في مصر، تحديدًا أوساط النشطاء والذي منّه، لأكتشف أن جزءًا ليس بالهين من صناعة الأخبار الكاذبة -القضية التي تشغل بال العالم الآن- يأتي من قبل نفس اللذين يحذرون من الأخبار الكاذبة، لكن في مواجهة "الطرف الآخر". والتوقف أمام ذلك هو أمر يستدعي عليك عدوانًا مباشرًا، أقلّه التقليل على الطريقة سابقة الذكر.

بمعنى أنه من الممكن جدًا، وقد حدث بالفعل، أن يمارس "مجلس إدارة احتكار الصواب" التلفيق في مواجهة السلطات في مكان ما. وخُبث التلفيق أنه، وعلى خلاف الكذب الصريح من البداية للنهاية، ينطلق من معلومات صحيحة لينتهي إلى فرضيات احتمالية جدًا، يُروّج لها باعتبارها الحقيقة الثابتة الوحيدة في الحياة.

أفهم أن لهذا علاقة أحيانًا بالدعاية الشخصية والترويج للحساب الشخصي. لكن الجدير للفت الانتباه إليه في هذه الممارسات، أنها تؤسس لحالة من الفعل السلبي المستند إلى الولولة والاستغاثة المطلقة من أي شيء وكل شيء، مع تغييب ضرورة الفهم العاقل لحقيقة ما حدث أو يحدث، لتحديد رد فعل عقلاني عليه، أو حتى الاكتفاء بفهمه. لكن في تلك الحالات، لا يوجد فهم أصلًا، لأن مجلس إدارة احتكار الصواب، أصدر المرسوم النهائي لفهم الموقف، وفرصة التفكير خارجه تساوي صفر، بحجم خطابهم.

لا تعني لا وأكثر 

مؤخرًا شغل الرأي العام، وخصوصًا مواقع التواصل الاجتماعي، في مصر وربما غيرها من دول المنطقة والعالم، قضية متحرش المنتخب المصري لكرة القدم عمرو وردة، بعد سلسلة من الفضائح التي مني بها بما كسبت يداه، منها وعلى رأسها، مقطع فيديو له وهو يلاعب عضوه، أرسله لفتاة مكسيكية عبر إحدى وسائل التواصل.

هاجت الدنيا وهو أمرٌ يستحق الهياج فعلًا. وخرج الاتحاد المصري لكرة القدم ببيان يعلن فيه إيقاف وردة، لكن العديد من لاعبي المنتخب اعترضوا، وأعلنوا تضامنًا في غير موقفه مع وردة الذي خرج في مقطع مسجل ليعتذر من كل أحد إلا الذين أساء واعتدى عليهن بتحرشه أو ملاحقته لهن بشكل مخيف.

وسط هذا، خرج محمد صلاح بتغريدة شدد فيها على أنّ "لا تعني لا" وأن هذا شيء يجب التعامل معه بـ"قدسية"، ثم استببع هذا بالإعراب عن اعتقاده بأن المخطئين يمكن أن يصبحوا أفضل وأنه "لا يجب إرسالهم إلى المقصلة مباشرة"، ثم أتبعها بتغريدة أخرى قال فيها: "نحتاج للاعتقاد في الفرصة الثانية. نحتاج إلى الإرشاد والتثقيف".

في اعتقادي رأي صلاح واضح من جهة تجريمه للتحرش وتحديده لمفهوم أولي له في قوله: "لا تعني لا"، ثم ناقش أن المتحرش ربما يستحق فرصة للإرشاد والتثقيف، وهو طرح يحتمل النقاش جدًا والأخذ والرد. لكنه، في اعتقادي، لا يحتمل الإرهاب والتخويف والسب والقذف والاتهام بالتبرير.

في حين أن زملاء صلاح اتخذوا موقفًا رافضًا بالجملة لاتهام وردة وتجريم فعلته، أو أي أثر يترتب على فعلته، اتخذ صلاح موقفًا أخلاقيًا نقديًا، وفي الحقيقة أعتقد أنه موقف شجاع في ظل الهوجة التي عمت الأبصار عن ضرورات مثل التعريف والفصل والتحديد.

موقف زملاء صلاح، الذي قد يبدو غريبًا للبعض، هو في الحقيقة ليس غريبًا في العرف السائد مجتمعيًا في مصر وغيرها، في مختلف طبقاتها الاجتماعية وشرائحها التعليمية، وهذا في رأيي يزيد من أهمية طرحه الخاص بضرورة الإرشاد والتثقيف: مصر ليست الولايات المتحدة الأمريكية، والولايات المتحدة الأمريكية ليست هي قبل عقود طويلة من التطور البنيوي المشروط.

التحرش جريمة -بعد تحديده أوليًا بـ"لا تعني لا"- كأي جريمة تَعدٍ على حرمة الجسد والنفس. لكن لا يمكن بين ليلة وضحاها أن نُطبّق هنا قياس أحكام لا ينتمي لواقع هنا، قبل أن نهيئ الظروف لواقع هنا ليتطبع مع الضرورات السابقة على الأحكام.

مثلًا، لا يمكن هنا فورًا ودون سابق إنذار أن تقتاد أبًا إلى المقصلة لأنه صفع ابنه. لن يفهم الأب لماذا يُعاقب، ولن يفهم الابن لماذا يعاقب والده، ربما وحده مجلس إدارة احتكار الصواب الذي سيفهم!

فرنسا مثلًا، وقبل أيام قليلة جدًا، أيد برلمانها قانونًا يحظر صفع الأطفال أو التعرض لهم بأي عنف تحت مبرر "التأديب". لدى فرنسا تاريخ طويل من التطور البنوي والتراكم الرأسمالي الذي أفضى في صيرورة طبيعية إلى مجموعة من القيم "التقدمية" التي أفرزت بدورها قياسات أحكام معينة. وفي 2019 فقط أيد برلمانها قانون يحظر ضرب الأطفال، لتنضم إلى 55 دولة فقط في العالم، من أصل أكثر من 190 دولة عضوة في الأمم المتحدة.

إرهاب السوشيال ميديا

وبالعودة إلى "إرهاب" السوشيال ميديا، ما حدث أن محمد صلاح تعرض لموجة عنف كلامي غريبة فعلًا، ومثيرة للشفقة من جهة من أطلقها. الغريب أنني رأيت منشورات لبعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان في مصر، يتعرضون بالسب المباشر والإهانة لمحمد صلاح. 

على السوشيال ميديا، في حالات موجهات الهياج، لا مجال لأي طرح نقدي. لا مجال لأي نقاش. هناك رأي عام/ خطاب واحد فقط إما أن تتبناه أو سيمارس عليك إرهابًا أقلّه "ده كان كويس!". 

بطبيعة الحال لم أكن وحدي من شعر بإزعاج حقيقي من موجة الإرهاب هذه، أعتقد أن الكثيرين شعروا بها، وكان الصمت إزاءها أسلم خيار. وبعضهم أعرب عن شعوره بالخوف منها.

مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها أماكن تشهد أشكالًا من التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، تستحق الدراسة بتأنٍ وروية، لكن بشكل جاد. لم يعد من الممكن التعامل مع السوشيال ميديا باستخفاف وتتفيه، رغم سخافتها وتفاهتها في نفسها.

 على السوشيال ميديا في حالات الهياج، لا مجال لأي نقاش، هناك رأي عام/ خطاب واحد فقط إما أن تتبناه أو سيمارس عليك الترهيب

لكنها، أي السوشيال ميديا، مجال له تداعياته على رواده ويعكس تصورات الكثير من مستخدميه عن أنفسهم والعالم، ويكشف تطلعاتهم، كما يفضح الكثير من الزيف في العالم الحديث على مستويات مختلفة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

المنصات فقاعة وهم

كيف تؤثر السوشيال ميديا على الحقائق؟