- إلى نعيم الخطيب
أكتبُ لكَ هذا وأنا أعتقد أنه "على الغارب" لن يصلك. فلم تتقاطع خطوط الطولِ والعرضِ فيما بيننا بعد لأستمتعَ بحوارٍ معكَ يُحييني لألف عامٍ بعده، لكنّي أؤمنُ بالمصادفاتِ السخيفة، تلك التي تسحبك إلى مقهى في فلورنسا ذاتَ رحلةٍ فتُنشئُ علاقةً عابرةً مع حجرٍ كانَ هُناكَ حينَ حدثت أسطورة ما لم نَعُد نصدقّها، فتأتي القهوةُ المركزةُ من يدِ شابٍ سَبَّ – بالعربية – كل أنثى في عائلةِ تلك السائحة الأمريكية فتنبهت حواسك كلّها، وابتسمت.
الفلسطيني هو الإنسان الوحيد في العالم الذي يحتاج لكلمة أو كلمتين على الأكثر ليبدأ حديثًا لا ينتهي مع أي غريب. ولربما، خُلقنا في هذا المكان الجُغرافي لسببٍ ما، لأن نكونَ رواة مثلًا، أو شهودًا على عالمٍ زائف، ومن الممكنِ أن نكونَ نحنُ الذين قتلنا البحر الميت في الأساطير وسرنا في جنازته، وحين لم نستسغ ملحَهُ، اتهمناه بفائضِ الموت الدعائي، لأننا لم نجد سَمكًا في بطنه.
وقد يكون مِلحُهُ مناعةً لنا في مواجهةِ الطائرات ولكننا لم نكتشف ذلك بعد.
بيننا ثمانية آلاف وتسعمائة وأربعون كيلومترًا جغرافيًّا، من مدينةٍ يتواجدُ فيها 317 شخصًا في الكيلومتر المربع إلى مدينةٍ أخرى بكثافةِ أكثر من 5 آلافِ شخصٍ في الكيلومتر المربع الواحد، وأتساءل، كيف يُمكننا هُنا أن نرسل لكم بعضًا من الأرض، والهواء أيضًا؟ وكيفَ لنا أن نعمل لكي ينزاحَ خطُّ تلكَ الحدود لتتسعَ أنفاسًا كثيرة؟ وهل من عدلٍ في هذه القِسمة التافهة التي وضعها البشر؟
هل لا زلتَ تخافُ على قصيدتك؟
ومن أحقُ منكَ ألاّ يخاف؟
إن أكثر ما أخشاه في يوميَّ العادي هو أن أفقدَ قُدرتي على استرجاعِ ذبذبةَ كلمةٍ ما، فمرّنتُ عضلةَ ذاكرتي بــ"جُدجُدِ" ساعتكَ الذي ذكرتَ في متنِ قول لا زلتُ أراه، وسأصدقكَ القول؛ لم تتوقف حركته الرتيبةُ في ذاكرتي منذها.
- إلى ر. و
قميصكَ المُخطط كانَ دلالةَ شيء ما لم نُعرهُ إنتباهاً أولَّ الأمر. وقتُ الانتظارُ كانَ أقلَ من عشرِ دقائق في مقهى الصحفيين في دمشق، عَن عَمدٍ رُبما تأخرت أنتَ لتُعطي المكانَ فُسحةً ليعتادني وأعتاده، ذلكَ اليوم، الذي أحفظهُ، كانَ منذُ زمن، زمنٌ طويل.. أعني، قبلَ كُلِّ هذا الخراب.
سرقنا من الطريقِ إلى قاسيون أجملها، "خيّو بنت الديرة" في خلفيةِ المشهد تُراوحُ بينَ ترددٍ سيُبقيني في دمشق، وغنجٌ لمدينةٍ أخرى تُنادي كحزٍ من بطيخةٍ ناضجة تستلقي تحتَ شمسِ صيفٍ جديد.
لو أننا استعنّا بمخيلةِ "دان براون" وفككنا الخطوطَ التي كانت على قميصك، لكانَ بإمكننا استشرافُ ما سوفَ يكون.
كيفَ تجتمعُ هذه الطاقاتُ في غرفةٍ واحدة برغمِ وجودها في فضاءٍ واسع؟ وكيفَ تتزاوجُ الأفكار برغمِ مولدها في جغرافياتٍ متباينة؟ وكيفَ تصيرُ كل هذه المسافاتِ كذبة، والوقتُ مجردَ رقيبٌ يُتابعُنا؟ والعُمرُ خلايا تتوالد وتموت وتتشكلُ بياضاً على جبهاتنا؟
لو أنَّ هذه الذاكرة تحتوي على زرِ "Rewind" لأعدتُ تشغيلها لعلنا نُحاولُ فَهمَ ما سيكون.
حينَ وَقفنا ببابِ تلكَ الحارةِ القديمة قلت لي؛ ستكونُ لي مُثلها، وإن ليسَ اليوم، ففي عالمٍ ما. وقلتُ لك؛ ستكونُ لنا.
وكأنها غيمةٌ سرقتنا من ذلكَ المكان فهطلناَ مطراً على أرضٍ جديدة، زرعنا ما استطعنا من أملٍ، عَطشنا لأيامٍ وأرِقنا لليالٍ طوال، وحينَ جاءت شمسُ الحصاد، بحثنا ضاحكين عن مناجلَ تركناها هُناك، في زاويةٍ نُحبها من البلدةِ القديمة في دمشق، كانت هي السماءُ التي اختصرنا بها ما نُريد، وحينَ لم نجدها قلت:
هذه لي "قطعة ناقصة من سماء دمشق".
لو أننا تتبعنا الخطوطَ على قميصكَ الأسود لكتبنا سيرَةَ المُستقبل، وكلامٌ كثيرٌ كدخانِ سجائرنا، ولو لم نجد أقلامًا تُسعفنا لكنّا استعنّا بالماء، فهو الوحيدُ الذي يجعلَ كلَّ شيءٍ حي.
- إلى طارق حمدان
الشمعُ الذي احترقَ على رائحةِ النبيذ كانَ منارةً نترقبُ الوصولَ إليها، وحينَ انطفأت خلقنا لنا منارةً أخرى ولحقناها.
السماءُ هي السماء حيثما نكون، لكن المختلفُ بينهما هو مَيُلنا تجاهها، والسماءُ لا تُسرعُ أبدًا، فعلى مَهلٍ تَصبُّ ما تملكُ من بياضٍ فنرتجف أو صَفارٍ نتخيله فنحترق، والنافذةُ -هي ذاتها- المسؤولةُ عن كلِّ هذا.
عذّب أوتارَ عودكَ كيفما تشاء، أشددها وإرخها، وحينَ ترفُّ مستسلمة على أصابعك تذَكّر أن آخرها قد هزَّ قلبًا ما يحلمُ "بإسفنجةٍ تمتصُّ كلّ شيء".
على اتساعِ جنونكَ يتسعُ هذا العالم، والكلمةُ إن لَم تخرج في وقتها، فلا وقتَ لها. هذا العالم قاسٍ للدرجةِ التي يُمكنهُ طحنَ أجسادنا في ثانيةٍ دونَ أن يَشعر بها أحد.
لن نركنَ لوعودٍ قطعناها لمن لا نعرف، أو لمن تخلّى عنّا، ولن نكونَ جِمالًا أو حميرًا، فكلٌّ هذا لم يكف لكي نرى حُلمًا واحدًا مما تمنيناه حقيقة.
طارق، عِدني بصينية "لازانيا" كتلك التي أعددتها يومَ كانت باريس موعدًا، ويومَ كنّا أكثرَ أملًا بألوانٍ جديدة تَحكُم هذا الهُراء الذي يسمونه.. عالم.
- إلى طارق العربي
الحِسبة لن تنتهي، والخُضارُ لن تفنى.
أُكتب، فقط أُكتب. فنحنُ نريدُ أن نعرف ماذا يحدث بعد "الرابعة فجرًا في السوق".
قهوةُ العالم بردت، والكراسي اغبرّت، والورقة التي بينَ يديك اصفّرت. سَوِدّها.
وإن كان هذا العالم لا يكفينا، فكلماتنا ستبقى، وستجلسُ هُناك، وستختلطُ مع دخان الأراجيل لتتكثف، وتُصبح ذاكرة.
اقرأ/ي أيضًا: