04-أكتوبر-2024
امرأة في غزة-الاناضول

(الأناضول) امرأة في غزة

في كتابها المرجعي "هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ"، تتساءل الباحثة الأميركية الفلسطينية ليلى أبو لغد، كيف يمكن أن يصبح رجل مسلم يضرب زوجته، صورة عن العنف "الجوهري والمتأصل" ضد النساء في المجتمعات الإسلامية، تتناقلها وسائل الإعلام الغربية ويكتب عنها الصحافيون والباحثون بحماسة، فيما تبقى حالة رجل يخطف طفلة لعقدين في قبو في الولايات المتحدة مثلًا، مجرد قصة عن رجل مختل؛ قصة لا تقول شيئًا مثلًا عن الثقافة الأميركية أو اليهودية-المسيحية

إجابة أبو لغد هي جزء من مشروعها الأكبر المناهض لمفهوم الثقافة، المفهوم الذي تقول إنه يُصاغ ويُربط بشكل غير متساوٍ بمجموعات بعينها في العالم. فرغم أن العنف ضد النساء موجود في كل مكان، إلا أنه في أماكن بعينها يكون ثقافيًا، فيما يبقى في أماكن أخرى فرديًا فقط ومنزوعًا من أي سياق. كلا الإجابتين، بالنسبة لأبو لغد غير صحيح، فالعنف ضد النساء، في عالم متقلب تتزايد فيه العسكرة وتتفاقم فيه التوترات، هو أعقد من حالات فردية وأكثر تركيبًا من المقاربات الثقافية. ولذلك، فإنها تقترح بشجاعة أنه لا يمكن فصل الصورة الاستشراقية السائدة عن المجتمعات المسلمة كمجتمعات معادية للنساء، عن صورة أخرى، صورة الجيوش الغربية التي تتدخل عسكريًا لإنقاذ النساء الضحايا. إذ تتقاطع التمثيلات العرقية عن "الرجل الأبيض المنقذ" و"الرجل المسلم العنيف"، لصياغة مبررات مستمرة للتدخل العسكري، في أفغانستان والعراق، واليوم في غزة.

لم تكن قراءة أبو لغد بعيدة عن واقع البروباغندا الإسرائيلية خلال سنة على حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة. إذا كان عنف حماس ضد النساء الإسرائيليات، والسرديات غير الموثقة عن حالات اغتصاب، ثم صور الرهائن المحتجزات في غزة، جزءًا أساسيًا، وربما الأهم، في الدعاية الإسرائيلية التي تبرر الحرب.

ضحية أيزيدية في غزة

يوم أمس، نشر الجيش الإسرائيلي بيانًا مقتضبًا قال فيه إنه بالتعاون مع قوات أمريكية استطاع إنقاذ امرأة أيزيدية خطفت قبل عشر سنوات من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). لا نعرف كثيرًا عن السيدة التي تم تحريرها، ولا عن الشخص الذي خطفها، ولا تفاصيل واضحة لما حدث. في التغطية الإعلامية الغربية التي أولت اهتمامًا كبيرًا، يهيمن "غموض" على الحدث. من غير المعروف كيف دخلت السيدة المخطوفة إلى غزة، ومن خطفها، أو كيف تم ذلك، وما هي طبيعة مساهمة إسرائيل في إنقاذها. تقول الأخبار المكررة فقط إن طفلة أيزيدية خطفت من قبل تنظيم داعش قبل عشر سنوات في العراق، وانتهى بها المطاف في غزة، قبل أن ينقذها الجيش الإسرائيلي بمساعدة منظمة دولية، بعد أن كانت الغارات الإسرائيلية قد قتلت من خطفها.

لا نعرف كثيرًا عن القصة المروعة للمرأة الأيزيدية المختطفة في غزة، لكننا نعرف الإطار الذي ستوضع فيه

 

البيان العراقي، الذي أكد وصول الضحية إلى البلاد، تحدث عن دور أميركي أردني فقط، وعن جهود قامت بها السلطات العراقية لأشهر. المعلومات الصحفية المتوفرة، تتحدث عن مساهمة إسرائيلية محدودة فقط، ترتبط بتسهيل نقل الضحية من معبر كرم أبو سالم إلى الأردن، حيث سافرت إلى العراق. أما التغطية الإعلامية الغربية فكررت كالعادة مضمون البيان الإسرائيلي، رغم أن شهادة السيدة نفسها لم تتضمن أي حديث عن "عملية إنقاذ معقدة" كما يدعي البيان.

لا تحتاج هذه القصة المأساوية إلى كثير من التحليل سواء كانت دقيقة بالكامل أو غير دقيقة. الغموض في التفاصيل ونمط التغطية في الإعلام الغربي والحديث غير الواضح عن أن العملية هي عملية إسرائيلية، ثم ردود الفعل في الإعلام والمدونات العبرية؛ كل ذلك يكرر نوعًا مألوفًا من البروبغاندا، ويربط حماس والفلسطينيين بداعش. بل ويرتبط بصورة استشراقية أوسع تقترح ما كانت لمحت إليه وسائل الإعلام الغربية نفسها طوال السنة الماضية، إذ كررت بلغة أكثر حذرًا ما قاله المسؤولون الإسرائيليون عن صراع حضارات، صراع بين العالم المتحضر والإرهاب الإسلامي.

ربط حماس بداعش الذي سيطر بشكل منظم على الإعلام الغربي طوال أشهر لم يكن عفويًا، وهو بالتأكيد ليس ربطًا تقنيًا، ففيه تلتقي المساعي الإسرائيلية لنزع السياق عما يحدث منذ سنة مع المساعي المستمرة لنزع الإنسانية عن الضحايا الفلسطينيين. فعبر ربط حماس بداعش دون كثير من المساءلة، يتم نزع العنف الذي تمارسه المقاومة الفلسطينية من سياقه السياسي، ويصبح كأنه عنف بلا هدف سوى العنف، ولا يتعلق بأي شكل من الأشكال بالواقع الاستعماري على الأرض، وقد يستهدف أي شخص في أي مكان. ولذلك، ستجد الإعلام اليميني في الغرب يكرر ما قاله نتنياهو أكثر من مرة، بأن إسرائيل تحمي "العالم المتحضر" من عنف حماس الذي سيتمدد أبعد من إسرائيل وسيصل إلى الغرب. والقصة المروعة للسيدة الأيزيدية التي خطفت وهي طفلة، تتناسب مع هذا الربط، ومع تصوير المقاومة الفلسطينية كأنها جزء من عنف لا سياق له، عنف يستهدف الجميع.

من المستبعد بل شبه المستحيل أن تكون هناك علاقة بين حماس أو أي فصيل مقاومة فلسطينية بخطف الضحية. ما هو موثق أن مئات ممن التحقوا بتنظيم "داعش" عادوا إلى دولهم بعد انهيار التنظيم، سواء في الوطن العربي أو خارجه، وربما كانت غزة إحدى هذه المناطق. ونتيجة لتعقيدات الحصار والطرق غير الرسمية للتنقل عبر الحدود بين غزة ومصر، وسيطرة الميليشيات المصرية المناصرة لتنظيم الدولة على الحدود وسبل التهريب، من المنطقي الافتراض أن هذه السيدة دخلت إلى غزة عبر مصر تهريبًا، وهو ما تؤكده شهادتها، حيث قالت لشبكة "سي إن إن" إنها دخلت لمصر عبر جواز سفر مزيف. لكن المعروف أن حماس، كسلطة أو كفصيل مقاومة، خاضت صراعًا طوال السنوات العشر الأخيرة ضد الجماعات الجهادية السلفية، لأسباب عديدة يصعب حصرها، ومنها من اشتبهت حماس بارتباطه بتنظيم سيناء على الجانب الآخر من الحدود مع مصر. لكن هذا كله لن يظهر بطبيعة الحال في تغطية ما حدث، فالخطوط العريضة عن داعش وحماس وغزة تكفي وتؤدي الغرض، من أجل وضح إطار حضاري لحرب الإبادة على الفلسطينيين.

تعكس هذه القصة المروعة بالتأكيد جزءًا من تعقيدات مجتمعاتنا، التي لا بد لنا من التعامل معها بكثير من الحذر، بما في ذلك العنف ضد النساء والأقليات والتطرف الديني. لكن لا بد من الانتباه أن الإطار الذي توضع فيه مثل هذه القصص إسرائيليًا وغربيًا، يتصل اتصالًا وثيقًا بالحرب المستمرة على الفلسطينيين. فبالتأكيد لو كان الخبر عن امرأة اختطفها أحد العائدين من تنظيم داعش إلى فرنسا مثلًا، لكان الوقع والمعنى مختلفين.

من اللحظات الأولى، من الأخبار المزيفة عن الأطفال والنساء الذين قطعت حماس رؤوسهم أو حرقتهم في أفران، إلى قصص اغتصاب النساء الإسرائيليات التي انتشرت أكثر من أي قصص أخرى طوال السنة الماضية، وصور الرهائن المختطفات في غزة، كان العنف ضد النساء جزءًا من الدعاية الإسرائيلية المنظمة، التي اقتحمت بسهولة الإعلام الغربي السائد.

لم تزعج هذه المؤسسات نفسها بالنظر إلى التاريخ الطويل من استخدام الاغتصاب مثلًا مبررًا للعنف ضد السود والملونين، عبر آلاف حالات الإعدام خارج القانون في الولايات المتحدة (تشير دراسات إلى أن حوالي نصف الحالات بنيت على ادعاءات مغلوطة بالاغتصاب)، وفي جنوب أفريقيًا أثناء نظام الفصل العنصري، وفي مستعمرات فرنسية وبريطانية عديدة. كما لم تزعج وسائل الإعلام الغربية نفسها في النظر إلى أنماط متكررة من الدعاية الملفقة التي بدأها الإسرائيليون من اللحظة الأولى، من الأطفال مقطوعي الرأس إلى قصف مستشفى المعمداني. فوقت التحقق والمراجعات سيأتي لاحقًا، بعد أن تكون المجازر قد انتهت، والمبررات قد استخدمت.

لا نعرف كثيرًا عن القصة المروعة للمرأة الأيزيدية، لكننا نعرف الإطار الذي ستوضع فيه، ونعرف أن قصة مبكية ومحزنة وقاسية عن امرأة واحدة، ستعطي مزيدًا من الشرعية لقتل آلاف النساء الفلسطينيات وربما اللبنانيات في الفترة القادمة.