"لما سميناك رنتيا اتخيلت إنه أنا وانتي بنكون في سوق الخضرا/ الحسبة، وأنا بشتري في برتقال حكالي عنه صاحب البسطة إنه من يافا، ووقعتي حبة برتقال رحتي تلحقيها وهي بتدحرج وأنا نديت عليكي "رنتيا رنتيا.. اتركيها وتعالي". صاحب البسطة اطلع عليك وسأل كأنه لاقى الإجابة الي كان بيفتش عنها "هاي رنتية؟ اسمها رنتية؟". كنت بدي أجاوبه وأعطيه شرح تاريخي وسياسي مفصل لشو يعني اسمك.. قاطعني وقال، براحة ورضا، كأنه جوابه هو الجواب الي كلنا بندور عليه "أنا من رنتية، أنا منها لبنتك".
كانت هذه إجابة أمي، بعد أن سألتها بغضب، وكنت صغيرة: "ليش سميتوني رنتيا؟ فش حدا بيعرف يلفظه والكل بيسأل عن معناه". إجابة بدت في حينها، أكبر مما تتوقعه طفلة "قلقة دائمًا.. عجوز بجسم طفلة". شعرت أنها قصة أخرى سأضيفها للضيوف الذين سيسألونني عن معنى اسمي، أو سبب اختيار عائلتي له. بدت القصة وكأنها لحظة نضج مباغتة، وشعرت بمسؤوليات تتزايد علي.
ما زلت أتذكر اليوم الذي كرهت فيه اسمي. كنت طفلة بلغت التاسعة للتو، متحمسة، تركض في انتظار المفاجأة المتوقعة والهدايا المعروفة والمخبئة. مزهوة بقدرتي على أكل الكعكة جميعها، بحماية جدتي، دون أن تستطيع أمي منعي. في أول الممر، أرى خالتي تمشي باتجاهي مبتسمة، حاملة في يديها أول وأكبر وأثقل هدية. أفتح الهدية بحماس بالغ، لأشعر بمعنى خيبة الأمل الحقيقية، التي ستزيد من قلقي الوجودي وتزيد على هروبي من اسمي، صعوبة أكبر.
كانت الهدية كتابًا لا يقل عن 800 صفحة بعنوان "لكي لا ننسى" للمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي. كنت وقتها أتمنى لو نسيت انا وجودي في هذا العيد. كبحت دموعي وشكرتها مع عناق لأركض للهدايا الأخرى، كأنها ستعانقني بعيدًا عن المزحة السوداء التي قامت بها عائلتي.
ما لم أكن أعرفه حينها، أنني سأعيش مضطرة مع ذاكرة ليست ذاكرتي، ومع أحلام ليست أحلامي، وعلى ألا أنساها، لأنه ليس علينا "أن ننسى". أحلام غُرست جذوعها قسرًا في آبائنا، وكأن جذورها تمتد بشكل لا إرادي إلينا. تعطينا جزءًا من المعنى، من الارتياح الوجودي، لأننا أنجزنا جزءًا من المهمة المناطة بنا، عندما "لا ننسى" تاريخًا لم نعشه أصلًا. كأن مأساتنا لا يمكن أن تنفصل عن وجودنا، هويتنا، وكيف نعرف أنفسنا، مهما حاولنا أن نركض للـ"هدايا الأخرى". أحلام مؤجلة لا يمكن الهروب منها، وهوية ستطغى على جميع خياراتنا.
ما بدا ساخرًا حيال اسمي، أنه كان بالنسبة لعائلتي رسالة أرادوا إرسالها دائمًا، "كي لا ننسى"، لكنه كان في نفس الوقت شاهدًا أن كثيرين قد نسوا أصلًا. وعلى الأقل، كانت كل تلك الأسئلة التي كنت أتلقاها، عن معنى الاسم، أو عن طريقة لفظه، تشي بذلك.
"لا مش راناتية، رنتيا...لا لا مش سينثيا، مش رندة، مش ماريا. مش روتانا" هذه أسماء حقيقية ناداني الناس من خلالها. "هل هو أجنبي؟ هل أنت مسيحية؟ كانت جبهات مختلفة تفتح أبواها كلما نطقت اسمي، جبهات تعكس واقعنا الفلسطيني بشكل وآخر، وتفتح أسئلة عن طريقتنا كفلسطينيين في ترتيب الهويات.
لم يكن اسمي بالنسبة لي أو لعائلتي مجرد ذاكرة حية أو وثيقة تاريخية، لكنه ترافق في بالي غالبًا بردود فعل الآخرين عندما يعرفون معناه، بتفاجئهم، وبخجلهم الطفيف لأنهم لم يسمعوا عن هذه القرية من قبل. كأنه يهدد هويتهم الفلسطينية. دليل ما أنهم فشلوا في الاختبار، أو أنهم لم يتعلموا الدرس جيدًا. بدا الأمر لي كأنني قاضية أحاسب الجميع، أشعرهم بالذنب الذي يشعرون به أصلًا، لكن هذه المرة لأنهم فشلوا في درس الذاكرة. شعرت أن اسمي كان رسالة غاضبة، لكنها مكتوبة بلغة لم يعد الآخرون يفهمونها. أما شرحي معناه، فكان كأنه تذكير للآخرين أنهم نسيوا.
أرسلت لي بنت خالتي مقتطف صورة عن إحصائيات ومعلومات عن القرى الفلسطينية المهجرة بالتركيز على اسم القرية "رنتية" بجانبها اسم الشهداء، وموقعها في يافا، وتاريخ التهجير: 10/7/1948 أي في نفس الشهر الذي ولدت فيه. شعرت كأنني وجدت إجابة على سؤال لم أكن أعرف أنني سألته أو حتى أنني أريد الإجابة عليه. شعرت بأنني أنتمي إليها، إلى هذه القرية التي كانت تلاحقني طوال 27 عامًا من حياتي، وكأنها كانت تصب عليّ حبها اللامتناهي، كأم تمنح الحب لأبنائها الذين لن يقدروا هذا الاهتمام إلا عندما ينضجوا. سألتني بنت خالتي "بتفكري مش أحسن لو سموكي أهلك سهاد ولا فتحية؟"، بضحكة خفيفة متأكدة بأنني سأفهم ما تعنيه. "أحيانا أفكر بتلك الطريقة أيضًا، لو كنت شخصًا باسم عادي لا يضع على كاهله عبئًا ثقيلًا"، قلت لها. لكن في نفس الوقت، أضفت، "أعتقد أنني محظوظة، فاسمي إجابة أولية وموجزة على أسئلتي الوجودية".
أكنا نريد ذلك أم لا، فإن هويتنا و"ذاكرتنا الفلسطينية" لا يمكن أن تنفصل عن الطريقة التي شكلنا ونشكل فيها أنفسنا. بمعنى، أن ما يشكل هويتنا والتي هي بشكل تلقائي مرتبطة بوجودنا، كبشر في هذا العالم أولًا ومن ثم كفلسطينيين، هو حقيقة لا يمكن الهروب منها. أكان هذا ما نرغب بأن يتم التعريف عنا من خلاله أم لا. حقيقة تتوغل أكثر في هويتنا، ليتشكل ما نعرف أنفسنا به وما يعرفه الآخرون عنا ومن خلالنا. فتصبحين أنت "أنثى فلسطينية". وبهذا التعريف فقط وبدون أي داعٍ لشرح مفصل أكثر، تحصلين على عدة هويات وتصنفين بعدة طرق.
لكن السؤال الذي كان دائم الحضور في ذهني، هو هل نريد حقًا أن نتخلى عن هذه الهوية، بكل ما تتضمنه من عبء، لو أتيحت لنا الفرصة؟ لم أعتقد ذلك. فارتباط هويتنا ووجودنا في هذا العالم بقضية "سامية" ونضال دائم من أجل الحرية، أعطانا ما يشبه الامتياز، عندما يتعلق الأمر بأسئلة يومية نطرحها كبشر على أنفسنا. وكلما فشلنا في إيجاد إجابة عن سؤال "معنى الحياة" نعود بسرعة إليها، ونركض هذه المرة، ليس إلى الهدايا الأخرى، ولكن إلى الهدية نفسها، بكل ما يرتبط بها من أثقال وأسئلة.
عندما عشت في أمريكا لمدة سنة. كنت هناك أجنبية باسم غريب، غريب فقط لأنه ليس من أصل أمريكي، إن كان هناك ما يمكن أن يوصف أصلًا بأنه أصل أمريكي. لم يسألني أي شخص عن معنى الاسم، لم يحاول أحد لفظه بطريقة صحيحة، ولم أحاول تصحيح أحد. لكن لسبب ما، كنت أنا أعرض عليهم تفسير معنى اسمي، كأنها آلية دفاعية لتثبيت هوية لم تعد بنفس الأهمية في سياق مختلف، في بلد غريب، تحولت فيه إلى مجهولة، ولم يبق لي إلا قصص ليست لي أرويها لجمهور غريب، واستعارات عن اللامساواة التي أمدتني بغاية وهدف ومعنى. كأن قلقي الوجودي هو بالطبع أقل لكونني أقل.
لم أحظ بهذه المجهولية في فلسطين. بقيت دائمًا معروفة لأنني "الوحيدة في العالم بهذا الاسم". هذا على الأقل ما كانت تعزيني به والدتي عندما كنت أطلب منها في الملعب أن تسميني "ليلى". أو عندما كنت أطلب أن تناديني كل يوم باسم جديد، أذهب راكضة إليها بعد أن أجد أصدقاء جددًا وأهمس قائلة "اليوم اسمي سارة". وفي كل مرة كانت تجيب في الطريق إلى المنزل: "انتي بتعرفي إنك رنتيا الوحيدة بالعالم؟ وأول وحدة اسمها رنتيا؟".
لم تكن هذه الميزة وردية دائمًا كما أرادت أمي أن تظهرها. جعلتني معروفة دائمًا من خلال اسمي "الوحيد بالعالم"، هاربة من الضوء لكن دائمة الانكشاف. وكنت أسأل ماذا لو سمتني عائلتي "بيسان؟ يافا؟ ألم يكن سيحمل نفس المعاني التي نريدها أن لا تُنسى، لكن بوقع أقل، وحرية أكثر.
في طريق العودة إلى فلسطين، جاء دوري لتسليم جواز السفر للجندي. في العادة أبقي وجهي على جهة أخرى، أخلع نظارتي الطبية حتى لا أرى، ربما باعتقاد طفولي أيضًا أن لا أحد من جنود الاحتلال يستطيع أن يراني أيضًا. قبل أن أسمع بصوت متقطع: "شو ايسيمك؟ انت شو اسمك؟ راناتي؟"، أجبته بالتهجئة، كالمعتاد "رنتيا.. ر.ن.ت.ي.ا".
أما السؤال الذي لم أتوقعه لكنني بدوت وكأنني انتظرته طوال حياتي، جاء: "شو معنى اسمك؟". شعرت أنني الآن فهمت معنى اسمي بكل تاريخه وأحلامه وبكل آفاقه وآماله، الآن فهمت لماذا سموني بهذا الاسم. "قرية تم تهجيرها عام 1948 قضاء يافا الفلسطينية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية"، أجبته ولبست نظاراتي من جديد.
اقرأ/ي أيضًا: