نشأ مفهوم الأمننة (Securitization) مع ظهور مدرسة كوبنهاغن للدراسات الأمنية في مطلع التسعينات، وقد ارتبط، في صيغته الأولى بالافتراض بأن الأمن هو بناء اجتماعي، أي أنه مرتبط بالسياق الذي يتشكل فيه. يعتمد هذا الافتراض على مجموعة من المقولات الأساسية، التي تُجمع على ارتباط هذه العملية بالشرعية السياسية لسلطة أو جهة أو خطاب.
يمكن وصف الأمننة بكونها عملية وضع مجمل التحديات والمشاكل التي يواجهها مجتمع ما، في سياق التهديدات الأمنية التي تُصور كأنها متعلقة بمستقبل الأمة كله
رغم الاختلافات الكبيرة بين التوجهات النظرية التي قدمت تعريفات لهذه العملية، إلا أنه يمكن وصف الأمننة بكونها عملية وضع مجمل التحديات والمشاكل التي يواجهها مجتمع ما، في سياق التهديدات الأمنية. وبالتالي فإن الأمن (Security) وانعدام الأمن (Insecurity)، وكذلك الأمني وغير الأمني، ما هما إلا نتيجة لعملية أمننة، خاضعة للسياق السياسي والاجتماعي.
في صورتها المباشرة، فإن نظرية الأمننة تسلط الضوء على تلك الأنواع من الخطابات القائمة على نشر مخاوف عامة، وتصويرها كأنها مرتبطة بوجود ومستقبل مجتمع أو نظام أو فئة ما، واعتبار أنها تهدد بقاءه. وقد ركز المنظرون الأساسيون لهذا النموذج، على غرار باري بوزان وأول ويفر، على الدور الذي تلعبه هذه المخاوف في تبرير النزوع نحو سياسات الطوارئ، من خلال القول بأن "مواجهة المخاطر تكون أولًا"، وتبرير التدابير الصارمة في سبيل تحقيق هذه الغاية. ومع رواج هذا الخطاب، فإنه ينتقل من كونه تدبيرًا استثنائيًا أو طارئًا، إلى كونه جزءًا من المساومات العادية والنقاشات العامة في المجال السياسي. وإذا كان مفهوم الأمننة يعني بشكل أو بآخر عملية تحويل قضايا اجتماعية أو سياسية وحتى شخصية إلى قضايا أمنية، أي إقحام القضايا الأمنية في حقول ومواضيع جديدة، فقد عنى ذلك بالتوازي، إقحام السلطة والتنافس عليها، في هذه القضايا الجديدة.
اقرأ/ي أيضًا: ما وراء خطوط الشعبوية.. هل هو عصر إذابة الدولة القومية الحديثة؟
في خضم النقاش الدائم حول هذا النموذج النظري، اقترح أورييل أبولوف مفهوم الأمننة العميقة لمعالجة الطريقة التي ينتشر فيها هذا الخطاب حول التهديدات الوجودية، ليس على صعيد السياسات العامة، ولكن في المجتمع بشكل عام، ويصبح مرتبطًا بمجمل قضاياه والنقاشات العامة فيه.
وفي حين أن عملية الأمننة، حسب أبولفوف، تتجسد بشكل عنيف في المجتمعات التي تجتاحها شكوك وجودية عميقة حول بقائها. حيث إن مثل هذه المجتمعات مغمورة في نوع من الأمننة العميقة، أي تنتشر فيها التهديدات الوجودية بشكل واضح كأنها محتملة وقريبة التحقق، وممتدة، وتعرض وجود الدولة/الأمة كله للخطر، فأن تقوم بالأمننة (to securitize)، هو أن تسيس (to politicize)، فيما تتشابك القطاعات الأمنية والسياسية والاقتصادية بشكل مكثف، ويكون موضوع الشرعية السياسية هو نفسه النظام السياسي/الهوية.
يعتمد تعريف الأمننة العميقة على نظاق ومدى تأثير انتشار هذه التهديدات الوجودية في المجتمع نفسه، حيث يتميز بأنه ﻳﺸﻤﻞ ﺧﻄﺎﺑًا عامًا واﺳﻊ اﻟﻨﻄﺎق يستمر على المدى الطويل، يركز على التهديدات المتعلقة بوجود الأمة/ الدولة، وعلى طابعها.
في نفس الوقت، وفي حين يركز هذا الخطاب على كون بقاء الأمة أو الدولة مهددًا، فإنه لا يزال مرنًا بحيث تتغير فيه القضايا التي تهدد هذا البقاء بشكل كبير. حيث يمكن للخطر على وجود الأمة أن يكون عسكريًا أو جغرافيًا أو ديموغرافيًا أو سياسيًا أو بيئيًا أو اقتصاديًا، و"عادةً ما تنطوي الأمننة العميقة على تفاعل ديناميكي بين هذه القطاعات المتنوعة"، على حد وصف أبولوف.
يبدو أن الخوف هو أفضل أنواع الدعاية، التي لا تحتاج الحركات السياسية بفضلها إلى طمأنة الناس للوصول إلى الحكم، ولكن إلى إخافتهم ببساطة
الشعبوية والأمننة
يصعب استخلاص تعريف واضح حول مفهوم الشعبوية، إذا إنه نوع من المفاهيم المرنة، التي لا يتبنى القائمون عليها أفكارًا حاسمة وثابتة. مع ذلك، فإنه أصبح من المعروف أن التيارات الشعبوية الصاعدة بقوة في كثير من دول العالم، تسعى إلى اكتساب نوع من الشرعية، من خلال تعميم أنواع عدة من المخاوف والتهديدات، مثل الخوف من اللاجئين أو المهاجرين ومن فساد النخب الحاكمة، والإرهاب إلخ.
تجتمع هذه المخاوف، من ناحية كونها مرتبطة بتغير الطابع العام للأمة/الدولة. فاللاجئون أو المهاجرون مرفوضون لأنهم يعتبرون خطرًا على هذا الطابع، كما أنهم يشكلون خطرًا على "امتياز" المواطنين المولودين في هذا البلد أو ذاك. وغالبًا ما يتم تعزيز هذه الادعاءات من خلال الافتراض أن هناك طبائع نقية وثقافات خالصة، أو حتى أعراقًا في بعض الحالات المتطرفة.
تمثل الشعبوية نوعًا مباشرًا من الأمننة، حيث إنها لا تكتفي بنشر هذه المخاوف، واعتبارها ركيزة لإدارة الدولة، ولكنها تقوم أيضًا بموازاة ذلك، باستخدام هذه المخاوف، من أجل البدء بجولة من السياسات "الطارئة" أو الاستثنائية، بحجة مواجهة هذه المخاطر. كما أن الأمننة تعتمد على نوع من الانتقاء الحاسم، الذي يعطي الأولوية لخطر ما ولمواجهته، في حين يتم تبرير تجاهل المشاكل والتهديدات الأخرى.
تكمن خطورة سياسة الطوارئ هذه، أنها قائمة في الأصل على الادعاء بإمكانية اختراق القواعد الأخلاقية للحكم (الديمقراطية، الحرية، حقوق الإنسان) من أجل وقف التهديدات المفترضة. تمثل ذلك في عدد كبير من الحالات في الدول التي تديرها حكومات شعبوية، في قمع الهجرة، على غرار إجراءات فصل الأطفال عن عائلاتهم على الحدود في الولايات المتحدة، أو رفع العقوبات عن حكومات استبدادية وحتى ميليشيات، والتغاضي عن القمع والتنكيل بالناشطين، من أجل التعاون على وقف الهجرة. وهو ما يبدو واضحًا في عمليات التنسيق واسعة النطاق، التي يقوم بها الاتحاد الأوروبي في دول مثل السودان ومصر وليبيا، إلخ.
الخوف من الخوف
لقد تطرق عدد كبير نسبيًا من الدراسات إلى العلاقة بين صعود الشعبوية وعمليات الأمننة، غير أن عددًا قليلًا من الأدبيات، قد لاحظ أن هناك عمليات أمننة مضادة، تنتشر في بعض الأوساط والنخب التقليدية في الغرب، تعتمد على التهديد من الشعبوية نفسها.
في صورتها المباشرة، فإن نظرية الأمننة تسلط الضوء على تلك الأنواع من الخطابات القائمة على نشر مخاوف عامة، وتصويرها كأنها مرتبطة بوجود ومستقبل مجتمع أو نظام أو فئة ما
لقد استخدم ميشيل ويليام تعبير "الخوف من الخوف" لوصف هذا النوع من الأمننة المضادة. تتمثل هذه الحالة بشكل مباشر، من خلال إنتاج مخاوف بديلة ضد المخاوف الرائجة. إذ يبدو أن حتى الخطابات المناهضة للشعبوية، تسعى إلى تعميم نوع من التهديدات الخاصة بها. حيث تتوازى التهديدات من اللاجئين والإرهاب وفساد النخب مثلًا، مع نشوء خطاب مضاد، يعتمد على التهديد من الشعبوية نفسها لإعادة اكتساب شرعية سياسية جديدة، باعتبار أن الخطاب الشعبوي، كما هو رائج في أوساط النخب الليبرالية الغربية، يمثل تهديدًا على الهوية الليبرالية والديمقراطية للمجتمع والدولة.
اقرأ/ي أيضًا: مارتن شولتز.. اللعب مع الشعبويين على قواعدهم
يلاحظ نعوم تشومسكي، أن هناك نوعًا من سياسات الطوارئ، التي يتم استخدامها في الأوساط المناهضة للشعبوية، من أجل تبرير استمرار وصول النخب التقليدية الفاسدة إلى السلطة. على سبيل المثال، فإنه يتم تبرير الفصل الكامل بين الحكومة أو البرلمان، وبين نخب التكنوقراط التي تسيطر على المؤسسات المالية الكبرى (البنك المركزي على سبيل المثال)، بحجة الحفاظ على هذه المؤسسات بعيدة عن متناول الحركات أو الإدارات الشعبوية التي تسيطر أو يمكن أن تسيطر على البرلمان والحكومة. وعمليًا، فإنه يتم من خلال ذلك، تبرير سيطرة نخب التكنوقراط هذه على المؤسسات المالية، من دون انتخابات بطبيعة الحال، ولا أي رقابة من قبل المؤسسات التمثيلية، التي تعبر عن رأي الناس.
في نفس هذا السياق، فإنه من الملاحظ بقوة في الفترة الأخيرة، تصدر آراء مناهضة لحرية التعبير، حتى في صحف تعرف نفسها كصحف ليبرالية ديمقراطية، بحجة أن حرية التعبير قد تكون مدمرة، بما أنها تسببت بصعود حركات فاشية إلى السلطة.
تتكامل الشعبوية، مع عدد كبير من الآراء التي تناهضها، أو تنافسها على السلطة، في اتخاذ تدابير طارئة واستثنائية، بحجة ردع تهديدات عامة يتم نشرها. فيما يبدو أن الخوف هو أفضل أنواع الدعاية، التي لا تحتاج الحركات السياسية بفضلها إلى طمأنة الناس للوصول إلى الحكم، بل تلجأ ببساطة إلى إخافتهم.