يبدو أن التّاريخ فعلاً يُعيد نفسه، ما أشبه السّادس عشر من أيلول/سبتمبر - 2015، بالسّابع من آب/أغسطس - 2001، النّظام الأمني اللبناني ينزع قناعه ويطلق العنان لغرائزه الوحشية مجدّدًا. معتقلو رأي بالعشرات، وإصاباتٌ مختلفة بين متظاهري الحراك المدني الرّافض لتلكّئ الدّولة، أي السّلطة الحاكمة عن أداء واجباتها في أبسط الملفات، رفع النّفايات.
قرّرت الحملات المشاركة في الحراك المدني الرافض لتأخير رفع النّفايات، الاعتصام في وسط بيروت بالتّزامن مع إنعقاد جلسة الحوار بين الزّعماء اللبنانيين، للمرة الثّانية بعد الإعتصام السّابق الذي نفّذته الحملات عند إنعقاد جلسة الحوار الأولى، نهار الأربعاء، التّاسع من أيلول/سبتمبر الجاري، لم توقف الأجهزة الأمنية أحداً إبّان الجلسة الأولى، لكن الوضع اختلف اليوم، فالقرار بدا واضحًا: يُمنع منعًا باتًا تعكير صفو جلسات الحوار أو سرقة الأضواء منها، حرصًا على حقن الشّعب اللبناني بمزيدٍ من الإبر التّي تبقيه في غيبوبة. إبّان الجلسة الأولى، رمى المعتصمون مواكب المتحاورين بالبيض، يبدو أن بيض الشّعب قام بتفقيس هواجس المسؤولين، فحرّكوا أداتهم القمعية، أي قوى الأمن بمختلف شعباتها.
بدأ الاعتصام تزامنًا مع بدء الجلسة، لم يكن عديد قوى الأمن ذاته كما كل مرّة، عدد العناصر لم يكن كبيرًا، تجمهر المعتصمون في وسط بيروت وأطلقوا الهتافات المدينة للمتحاورين، حاول المعتصمون التّقدم وتخطّي الشّريط الشّائك،اإشتبكوا مع قوى الأمن كما في كل اعتصام، لكن اللافت هذه المرّة، هو أسلوب الأجهزة الميليشياوي، الأجهزة نصبت كمينًا للمتظاهرين، سمحت لهم بالتّقدم تمهيدًا لخروج عناصرها من نقاط تجمّعهم في مداخل المباني. وعند خروج قوات مكافحة الشّغب، انطلقت حملة الاعتقالات مترافقة مع أساليب عنفية انتهجتها قوى الأمن.
شعار "طفح الكيل" لم يحمله المتظاهرون هذه المرّة، بل قوى الأمن، تعرف هذه القوى خصمها، بالاسم والشّكل، هكذا تمّت الاعتقالات
هدف قوى الأمن كان واضحًا، شعار "طفح الكيل" لم يحمله المتظاهرون هذه المرّة، بل قوى الأمن، تعرف هذه القوى أو من يحرّكها خصمها، بالاسم والشّكل، هكذا تمّت الاعتقالات، القوى الأمنية تصيّدت النّاشطين الفاعلين في الحراك، ومن مختلف الحملات، من "طلعت ريحتكم"، "بدنا نحاسب"،" جايي التّغيير"، حلّو عنّا" وغيرها. لم تعر القوى الأمنية اهتمامًا للإعلام عكس المرّات السّابقة، ولا لفرقٍ بين منظّم ومتظاهرٍ عادي، جرّت أحد المنظمين وضربته بمكبّر صوتٍ كان يحمله، سحلت آخر على مرأى من الجميع، عنّفت ناشطةً واعتقلتها لتنقل لاحقًا إلى المشفى.
قرار السّلطة السّياسية واضح، لا حراك بعد اليوم، بدليل اعتقال أبرز وجوهه، قبل أن تنسحب قوى الأمن وتختبئ في مبنى العازارية، فور وصول شباب موالٍ لأحد الزعماء (رئيس مجلس النواب نبيه بري)، بحجّة سبّ زعيمهم، كسّروا خيم المضربين عن الطّعام واعتدوا على المعتصمين، لتعود وتظهر القوى الأمنية، في مشهدٍ شبيهٍ بالثّورة المصرية، وتقاسم الأدوار بين الأجهزة الأمنية و"البلطجية".
"عناصر داخلية تستغل مناخ الحرية والاستقرار للقيام بأعمال شغب"، هذا ما استهل الجيش اللبناني به بيانه إبّان أحداث 7 آب/أغسطس 2001، لتبرير إعتقال ما يتراوح بين 150 و250 ناشط من شباب "التيار الوطني الحرّ" وحزب "القوات اللبنانية". اختلفت الوجوه والانتماءات اليوم، لكن البيان ذاته سيصدر عن قوى الأمن، بالأمس خرج الشّباب مطالبين بخروج الاحتلال السّوري فاتهموا بزعزعة الاستقرار والتّحضير لأعمال شغب، واليوم خرج شبابٌ آخرون مطالبين بخروج احتلال النّفايات للشوارع والمناطق جميعها خوفًا من كوارث آتيةٍ بالتّزامن مع هطول المطر، فكان الاعتقال مصيرهم بدورهم، مع أنّ الدّستور اللبناني كان واضحًا في صونه الكيان اللبناني، كجمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل.
ربط الجيش اللبناني بيانه في 7 آب/أغسطس، في عهد الوصاية السورية على لبنان، بالظّروف الإقليمية وجرائم إسرائيل في فلسطين، متهمًا الشّباب المعتقل بالمساهمة بخدمة المشروع الإسرائيلي. كانت نكتة. أما اليوم، فالنكتة كبيرة أيضًا. قوى الأمن وخلفها القوى السّياسية، تتهم شباب الحراك بمحاولتهم جرّ لبنان إلى آتون "الربيع العربي"، ورائحة النّفايات بحسب أحد المسؤولين، أفضل من رائحة الدّم، ولا تنتبه السلطة أن الثائرين العرب كانوا على حق.
دائمًا تستحضر السّلطة البائد من الشّعارات المستهلكة والحجج الواهية، للضغط على الشّعب كي يصمت عن الفساد
دائمًا تستحضر السّلطة البائد من الشّعارات المستهلكة والحجج الواهية، للضغط على الشّعب كي يصمت عن الفساد، المحسوبيات، المحاصصة، غياب التّنمية وغيرها من ما تتسبب به السّلطة الحاكمة ذاتها، كما ضرب الفقراء بالفقراء. أكثر من 40 معتقلا، يوم الأربعاء، لم يشفع لهم الانتماء إلى نقاباتٍ وهيئاتٍ مدنية، منهم المهندس، المحامي، الإعلامي والعامل اليومي، المعتقلون من جميع فئات المجتمع وأطرافه، برأي السّلطة الحاكمة وعصاباتها، هم الخطر الحقيقي الذي يهدّد مكاسبهم. إنهم الشعب.