في كل ديمقراطيات العالم تمرُّ المجالس البرلمانية بفترات متباينة من القوة والضعف، وغالبًا ما يرتبط ذلك مع الظروف السياسية التي خرج فيها هذا البرلمان للوجود، وأيضًا تتناسب تلك القوة مع هوية الشخص المسؤول عن رئاسته.
المتابع للبرلمان المصري لن يجد منه سوى قرارات هزلية وموافقات بالجملة ومناقشات واجتماعات ساخنة لزيادة موازنته ومرتبات أعضائه
في مصر وبالنظر إلى برلمانها الحالي، والذي خرج للوجود كأداة سياسية في يد السلطة لكسب شرعية دولية، يمكن ملاحظة الضعف الشديد لمجلسها النيابي، الذي يبدو غير أهل للثقة في مسائل "القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة التي تحافظ على السلم الأهلي، وتحقيق النهضة الاقتصادية المنشودة، والاستمرار في إعلاء المصالح العليا للوطن، وممارسة سلطتي التشريع والرقابة بكل نزاهة وتجرد"، وهي الأمور التي ارتأى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قدرة برلمانه على القيام بها، بحسب كلمته التي ألقاها خلال الاحتفال بمناسبة مرور 150 عامًا على بدء الحياة النيابية في مصر.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يحاور السيسي صحافته؟
لكن المتابع للبرلمان المصري لن يجد منه سوى قرارات هزلية وموافقات بالجملة ومناقشات واجتماعات ساخنة لزيادة موازنته ومرتبات أعضائه ومشاريع قوانين لفرض ضرائب جديدة ورسوم إضافية، في الوقت الذي تمر فيه مصر بظروف اقتصادية صعبة. وبحسب تقارير صحفية مصرية، فإن أكثر من 300 دقيقة شهدها دور الانعقاد الأول للبرلمان المصري، هي عبارة عن مشادات وملاسنات بسبب أمور تافهة يتبارى فيها النواب.
في كتابه "كواليس الفساد في برلمان مبارك"، يحكي الكاتب الصحفي محمد المصري، المحرر البرلماني لمجلة "أكتوبر"، وأقدم المحررين البرلمانيين العاملين حاليًا، واقعة شهيرة حدثت في ثمانينيات القرن الماضي، مرتبطة ببداية تفكير النظام المصري في سياسات الخصخصة وبيع ممتلكات القطاع العام. ففي شباط/فبراير 1988، عُقدت جلسة برئاسة الدكتور رفعت المحجوب، تم اغتياله في أكتوبر 1990، للاستماع إلى رد وزير السياحة فؤاد سلطان بخصوص إعلان نشرته صحيفة الأهرام في يوم 12 كانون الثاني/يناير 1988، عن بيع أرض فندق "سان ستيفانو" لاستغلالها في إقامة مشروع سياحي، وهو الإعلان الذي أقلق عددًا من النواب فتقدموا بـ 4 طلبات إحاطة و5 أسئلة للوزير.
كانت جلسة ساخنة، واعترف الوزير من البداية ببيع الفندق بسبب خسارته لمبلغ نصف مليون جنيه في السنوات الأربع الأخيرة، ولكن المحجوب تدخّل بقوة في النقاش وخاطب الوزير: "الحكومة ليست مقاولًا، بل هي راع للشعب"، فرد عليه الوزير أن الحكومة قد ناقشت الموضوع في اجتماع لمجلس الوزراء، فكان رد المحجوب حاسمًا: "من الواجب مناقشته في مجلس الشعب قبل مناقشته في مجلس الوزراء".
اقرأ/ي أيضًا: الأزمة تنفجر..ضبط مواطن متلبسًا ب10 كيلو سكر
تعامل البرلمان المصري الحالي مع الحكومة يعد أسوأ تمثيل ممكن للعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية
كان المحجوب شخصية قوية، ويعد من أشهر رؤساء البرلمان في عهد مبارك ومن أوائل المسؤولين الذين واجهوا سياسات الخصخصة، بالإضافة لفتحه ملفات تتعلق بتورط مبارك وصديقه حسين سالم ونسيبه منير ثابت في قضايا بيع أسلحة وتلاعب بالمعونات الخارجية. وبمقارنة تصرف رئيس البرلمان في ذلك الموقف وبين ما يحدث حاليًا بين الحكومة والبرلمان من وفاق ووئام يمكن ملاحظة مدى البؤس الذي وصل إليه حال واحد من أعرق المجالس البرلمانية في العالم.
عرفت مصر الحياة البرلمانية منذ عام 1866 حين أصدر الخديوي إسماعيل قرارًا بإنشاء أول مجلس نيابي باسم "مجلس شورى النواب"، ورغم أن هناك مؤرخين آخرين يرون أن ثمة إرهاصات لهذه البداية البرلمانية قبل ذلك التاريخ بحوالي 40 عامًا، حين شكّل الوالي محمد علي المجلس العالي عام 1824، والذي كان يتكون من 24 عضوًا يمثلون نظّار الدواوين ورؤساء المصالح وممثليْن من الأعيان من كل مديرية ينتخبهما أهالي المديرية.
كما نصّ الدستور المصري عام 1923 على الأخذ بالنظام النيابي البرلماني القائم على أساس الفصل والتعاون بين السلطات، ووفقًا لهذا الدستور تم العمل بنظام المجلسين، مجلس الشيوخ ومجلس النواب، على أن يكون كل أعضاء مجلس النواب من المنتخبين، أما مجلس الشيوخ فيكون ثلاثة أخماس أعضائه منتخبين، والخمُسان مُعينين.
لا مناص، والحال كذلك، من القول إن تعامل المجلس الحالي مع الحكومة يعد أسوأ تمثيل للعلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. وإذا كان ثمة شيء يتوجب فعله على علي عبد العال رئيس البرلمان ونوابه فهو قراءة تاريخ المجلس، الذي يهدرون تاريخه في كل جلسة جديدة يحضرونها. فليس في التركيبة الحالية للبرلمان شيء مما في العهود السابقة من نواب يهزّون جدران المجلس من فصاحة حديثهم وقوة موقفهم ونديتهم مقابل الحكومة ودفاعهم عن ناخبيهم، وبالتأكيد ليس علي عبد العال هو رفعت المحجوب أو سيد مرعي أو حتى فتحي سرور، آخر رؤساء البرلمان في عهد مبارك.
صار الوضع أشبه بـ"مكلمة" تدور بين أفراد ينتظرون تعليمات تأتيهم من جهات أمنية وتنفيذية، ورئيس جالس في أعلى قاعة البرلمان لا يعرف كيف يدير الجلسات أو التحكم في انفعالاته، ويعتقد أن ثمة مؤامرة كونية تُحاك ضد شخصه.
اقرأ/ي أيضًا: