قد يتساءل البعض عن سر انتشار صدى الاحتجاجات في لبنان في أوساط الشارع العربي والدولي على حد سواء، إلا أن الجواب يبدو واضحًا حالما يبدأ المشاهد بمتابعة أخبار الشارع اللبناني لينجذب إليه أكثر من أي شارع عربي آخر، فروح الفكاهة التي لازمت الاحتجاجات اللبنانية ليست بغريبة عن طبيعة الشعب اللبناني، إذ طالما شاهدنا النكتة والدعابة من أصول لبنانية تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، ليتسنى للّبنانيين نقل هذه الروح من الافتراضي إلى الواقعي بدءًا من 17 تشرين الأول/أكتوبر الجاري إلى اليوم.
بانتشار النكتة على نطاق أوسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كان لها أثر، سلبي أو إيجابي، في تشكيل وعي يدفع المتابع اللبناني إلى تبني أو تعديل موقف تجاه مشهد سياسي أو اجتماعي ما
وليس غريبًا على اللبنانيين هذا الجو من الفكاهة إذ إنها تصدر عنهم عفويًا في نشاطات حياتهم اليومية. فالبرامج الفكاهية التي تعرض على شاشات القنوات اللبنانية بالمجمل ما هي إلا تجسيد حقيقي لهذا الجو الموجود في المجتمع خارج سيناريوهات القنوات. على مدار 15 عامًا من البث، شهدت القنوات اللبنانية طفرة في نوع وكمّ البرامج الفكاهية التي نقلت ما يجول في ذهن اللبناني من أفكار يهزأ بها من أي شيء مثير للضحك قد يصادفه.
اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: انتفاضة لبنان.. أسبابها وتداعياتها
السياسة في النكتة اللبنانية
وإن انحسر عرض البرامج الفكاهية في الآونة الأخيرة عن الشاشات التلفزيونية، إلا أن حس الدعابة لم يغب عن مشهد مواقع التواصل الاجتماعي، والتي بدورها أسست لصفحات وحسابات على مواقع فيسبوك وانستغرام كان لها وقعها في التعريف بمجتمع الفكاهة اللبنانية. والملفت في هذه الصفحات والحسابات هو مساحة الحرية في الطرح، إذ لا سقف لهذه النكات خاصة وإن ارتبطت بواقع سياسي أو اقتصادي يعيشه اللبنانيون. ويمكن القول إن سوء الأوضاع في لبنان جعل من النكتة متنفسًا في ظل ظروف صعبة تعصف بالبلد ذي التعددية الطائفية والإثنية. ولهذا فقد وجد اللبنانيون لأنفسهم طرقًا دفاعية، قد يقول البعض إنها سلبية، يلجؤون إليها لتفريغ هموم عانوها من التكتلات والأحزاب. وقد يتفق البعض أن هذه النكات ما هي إلا دليل عدم اكتراث وتجاهل لما يحصل في الشارع وفي ردهات السياسة اللبنانية، إلا أن اللبنانيين كانوا قادرين على إحالة أي مشهد على الأرض إلى نكتة تكون وسيلة للسخرية الواعية كل الوعي لما يجري. وربما نبني على فكرة" عدم الاكتراث" لنأخذها إلى سياق مغاير لما وضعت له، على اعتبار أن قادة ورموز الأحزاب مستهدفون في نكات وتعليقات اللبنانيين في إشارة إلى أن اللبنانيين قادرون على تحديد مشكلاتهم وبانتظار وقت لحلها أو تغيير مجريات الأمور.
وإن أردنا مقاربة النكتة اللبنانية مفاهيميًا، فإن "الكوميديا السوداء" تجيب عن أي استفسار خاصة وأن هدفها تحويل أي موضوع ضمن إطار المحرمات أو "التابوهات"، كالسياسة مثلًا، إلى نكتة مع الاحتفاظ بروح الجديّ. فهدف النكتة في الشارع اللبناني ليس "تمييع" المشكلات بقدر ما هو تسليط الضوء عليها، مع الإشارة إلى أن اللبناني قادر على العيش رغم كل هذه الظروف.
النكتة السياسية ومواقع التواصل الاجتماعي
وساهم في هذ الانتشار للنكتة وجود تعددية في الصفحات التي تقوم بنشر كل تفصيلات الحياة اليومية بصورة مضحكة. ومردّ هذه التعددية إلى كون لبنان مع المصنفين الأوائل عربيًا على مستوى الحرية الإعلامية، إذ نجد اليوم أن مواقع التواصل الاجتماعي اليوم قد نابت مناب الجرائد والمجلات التي تعبر عن حالة الاحتكار في أساس إنتاجها. ولهذا فقد استغل اللبنانيون مواقع التواصل الاجتماعي وحرية الإعلام التي يتمتعون بها لنشر جميع ما يتعرضون له من مواقف وأزمات على شكل كوميديا سوداء هادفة.
وبانتشار النكتة على نطاق أوسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كان لها أثر، سلبي أو إيجابي، في تشكيل وعي يدفع المتابع اللبناني إلى تبني أو تعديل موقف تجاه مشهد سياسي أو اجتماعي ما، خاصة وأن هذه الصفحات لم تعمل فقط على مبدأ "الإضحاك والتسلية". وعلى غرار البرامج التلفزيونية الفكاهية، أمثال "بس مات وطن"، و"هيدا حكي" و"شي إن إن"، كانت صفحات فيسبوك مثل صفحة "نكت لبنانية" من أبرز الصفحات التي ساهمت في توسيع مساحة الحرية السياسية منطلقة من ضرورة وجود منصة تكون "متنفسًا إلكترونيًا" للمجتمع اللبناني.
ويمكن القول إن مثل هذه المنصات أخذت منحىً جديدًا بعد عام 2011 ليكون المحتوى فكاهيًا-سياسيًا بالضرورة، ما فسح المجال أمام مجموع اللبنانيين لتقديم وابتكار خطاب سياسي جديد يحاكي الخطابات التي شهدتها صفحات ومنصات مشابهة، مثل الصفحات الفكاهية المصرية، خاصة وأن لبنان لم يكن بمنأىً عن المشهد السياسي والأمني في المنطقة العربية وخاصة بعد دخول لبنان على خط الملف السوري.
والمشاهَد أن أهمية منصات التواصل الاجتماعي اللبنانية تأتي من كونها تنتقد بسخرية جميع الفرقاء والسياسيين، بمعنى أن الصفحات تبقى على مسافة واحدة من جميع الأحزاب ما يؤمن لها استمرارية في الطرح. وربما كانت هذه الصفحات في أساسها لا تتبنى أيًا من الآراء الواردة في المحتوى، لكنها تمثل فضاءً عامًا يشارك فيه جميع المواطنين اللبنانيين بكافة أطيافهم. وبالتالي فإن هذا النوع من الطرح يمثل نموذجًا من " الجمعية" سواء فيما يتعلق بالذاكرة أم بالحاضر السياسي.
وضمن فضاء عام "لا سقف له" خلقته منصات التواصل الاجتماعي بين اللبنانيين في الآونة الأخيرة، كان لا بد من تغيير، أو حراك على خط التغيير، لتتعالى الأصوات عبر كافة المنصات للمطالبة بإضراب عام على طريق تغيير الحكومة اللبنانية الحالية.
حراك واحتجاجات
وعلى الرغم من تاريخ لبنان الحافل بالمظاهرات والاحتجاجات، إلا أن حراك 2019 والذي بدأ في السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر الجاري كان له الصدى الأكبر، لدرجة أن الشارع أربك أقطاب الحكومة. ففي 1992 أجبرت احتجاجات سببها تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد حكومة "عمر كرامي" آنذاك على الاستقالة، لتتالى بعدها سلسلة من الاحتجاجات أيضًا ساهمت في تغيير"ولو طفيف" على وضع البلاد الاقتصادي والسياسي. والمشهود للشعب اللبناني قدرته على النزول إلى الشارع والاعتصام بعفوية مطلقة كما في "ثورة الأرز" التي تلت أعنف عملية اغتيال لسياسي لبناني استهدفت "رفيق الحريري" عام 2005، والتي كان نتيجتها أيضًا استقالة "عمر كرامي" نفسه من منصب رئاسة الوزراء تحت ضغط الشارع. وفي 2015 نزل الشعب على نطاق ضيق إلى الشوارع مطالبين بإصلاحات اقتصادية وسياسية لم تلق أذنًا صاغية من الحكومة. ولم يزل الإصلاح الاقتصادي محور الحراك اللبناني والدافع الأكبر للاحتجاجات لتكون حزمة الضرائب الجديدة الشعرة التي قصمت ظهر العلاقة بين الشعب والحكومة في لبنان، ليكبر الحراك اليوم ويخرج عما كان مألوفًا من احتجاجات ضد الحكومة.
ميزة أكتوبر 2019
ولا يخفى عن المتتبع لتاريخ الاحتجاجات في الشارع اللبناني أن منصات التواصل الاجتماعي، من فيسبوك إلى يوتيوب إلى تويتر، لم تغب عن تنظيم الشارع ونشر يومياته. إلا أن الأمر مختلف إلى حد ما في الاحتجاجات الحالية إذ لم تكن هذه المنصات فقط للحشد، بل كانت الشرارة، جموعة بالطبع مع مسلسل من التراكمات، التي انطلقت بسببها الاحتجاجات. فمسألة الضرائب تشكل عبئًا كبيرًا على كاهل المواطن اللبناني لدرجة أنه لم يعد قادرًا على تحمل ضرائب جديدة طالت حتى تطبيقات إلكترونية مثل "واتساب" و"فيسبوك" و"سكايب" وغيرها.
وبحسابات الاقتصاد السياسي، تبدو هذه الضرائب ضمن إطار تنظيم و" تقنين" وسائل التواصل الاجتماعي لتتوافق مع واقع التغيرات التي تطرأ على وسائل الإنتاج. وبعد نمو استخدام هذه الوسائل، أو التطبيقات، أصبح هناك فرصة ضئيلة لمقاومة هذا الغزو الإلكتروني من قبل الشعوب عامة، وبالتالي تستغل المؤسسات المسؤولة هذه الحالة فتفرض قوانين ناظمة لعملية استخدام هذا المجال الإلكتروني. ولهذا فإن حظوظ المؤسسات المسؤولة عن سياسات قطاع الإعلام وتطبيقاته، في لبنان على وجه التحديد، كبيرة في الاستفادة من "تقنين" الاستخدام على اعتبار أن التحكم فيها يعود عليهم بفوائد طائلة خاصة وأن بعض المسؤولين يمتلكون أسهم في هذه الشركات.
ولم تلقَ تبريرات الحكومة بالمدخول الاقتصادي الذي سيعود به هكذا إجراء من "فائدة على الوطن" ترحيبًا من جانب اللبنانيين، لتتجه الأمور للتصعيد من خلال النزول إلى الشارع تلبية لنداءات دعا إليها مواطنون عبر صفحات فيسبوك؛ لتعود ذات المنصات إلى مهمة تحريك الشارع وتوجيهه.
الحراك اللبناني إعلاميًا
ويمكن القول إن سعة انتشار وتنوع سائل التواصل الاجتماعي اليوم أجج الشارع اللبناني ليصل إلى مرحلة غير مسبوقة سواء بكمّ المواطنين أو بتنوع خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والطبقية والسياسية. ولم تقف منصات التواصل الاجتماعي اللبنانية عند حدود أشخاص معينين بأنفسهم، إذ أننا شهدنا طفرة في كم الفيديوهات التي صدرت من ميادين وساحات المدن اللبنانية. هذا كله ساهم في إيصال مبادئ الحراك إلى أكبر عدد ممكن من المدن والقرى اللبنانية.
وعلى الرغم من أن أحدًا لا يمكنه إنكار دور وسائل التواصل الاجتماعي كمنصّات تفاعلية في الحراك، إلا أن الدور الذي يضلع به المدونون في مجال توثيق يوميات الحراك اللبناني اليوم أكبر من أي وقت مضى. ففكرة وجود حرية ومساحة إعلامية وإلكترونية في لبنان لا تعني بالضرورة أن يكون لهذه المنصات الدور في الحراك ما لم يكن هناك مدونون مهمتهم توثيق وتصدير أحداث الساحات.
يدفع هذا النموذج من الحراك أي شخص من اللبنانيين أن يكون مدوّنًا ما يعني أن فكرة المواطن الصحفي موجودة كصبغة لهذا الحراك على اعتبار أن كل مواطن قادر على أن يكون مراسلًا لما يجري في الحي الذي يعتصم به أو الساحة التي يشارك فيها. وبهذا فإن مجموع زوايا تناول الشارع تكون أكبر، ما يعطي صورة كاملة أو أوضح للمشهد. وهنا يقع الحمل على المواطنين الذين ينقلون الأخبار الأولية سواء أكانت من خلال "تغريدات" أو منشورات تحمل صورًا أو مقاطع فيديو للحظات الحراك، إذ يمكن للمتابع للشأن اللبناني أن يجد أن ووجود مثل هؤلاء المدونين مهم وضروري إلى جانب القنوات الإعلامية التي غابت عن الساحة في اليومين الأوليين للحراك.
ومع أن الغياب كان مبدئيًا من جانب القنوات التلفزيونية اللبنانية، إلا أن وجودها كان له أثر كبير في الساحات من خلال نقل مباشر لما يدور في الشارع من احتجاجات ونقل أفكار المواطنين المحتجّين. وإذ يعتبر النظام الإعلامي اللبناني فريدًا عربيًا، يمكن أن نعتبر أن أهم ميزات هذا النظام هي التنوع والتعددية الموجودة في القنوات سواء من ناحية الملكية أم من ناحية المواضيع والتوجهات التي يتم تبنيها. وبالتالي، فإن القنوات التي تشكل الماكينة الإعلامية في لبنان تكون قادرة على نقل واقع ردهات السياسة والأحزاب وما يجري في الشارع اللبناني دون أي خوف من رقابة.
ومع تفاوت الرؤية، أو الزاوية، التي يتم من خلالها نقل الحراك الجاري في ساحات مدن لبنان، نجد فرصة كبيرة للبنانيين أن يوصلوا صوتهم ورغبتهم في التغيير للسلطات السياسية في لبنان، الأمر الذي شجع اللبنانيين من كل الطوائف والأعمار ومن كلا الجنسين للنزول إلى الشارع والانضمام إلى الحراك، خاصة وأن القنوات مثل "MTV" و"الجديد" و"OTV" كانت قادرة على نقل وتغطية الشارع اللبناني وعفويته التي جذبت الكثير من الاهتمام.
عفوية الشارع اللبناني
وتعتبر عفوية الحراك اللبناني من أهم ما يحسب له على الصعيد العربي والدولي. فعند مراجعة نماذج الاحتجاجات في الدول العربية، فإننا قد لا نجد بمستوى ونوعية العفوية التي امتاز بها الحراك في بيروت ومدن أخرى مجاورة. ولم يخفِ اللبناني حس الفكاهة الذي "ورثه" ثقافيًا ومجتمعيًا عن الحراك الذي بدأه الشباب اللبناني، ليقدم مثالًا عن روح خفيفة قادرة على مقاومة أحلك الليالي بالضحكة والتصرفات العفوية.
وعلى اعتبار أن الطرافة "سمة لا تعطى لشعب دون غيره عبثًا، فقد تم تصدير عفوية اللبنانيين من خلال تصرفات لا تنم عن تصنّع وابتذال، بل عن حس فكاهي طبيعي موروث من الدماثة وخفة الظل. ولا يجب للمتابع أن ينسى أن تاريخ الفكاهة والبرامج الفكاهية، كما أسلف، ليس بحديث، إذ إن القنوات اللبنانية يشهد لها الجرأة في الطرح والتعاطي مع الثالوث المحرم؛ الدين والسياسة والجنس.
فتحت هتاف "كلكن يعني كلكن" اجتمع اللبنانيون ليبادروا بطرح حراك قلب موازين نظريات الإعلام التي نظّر لإحداها ماكلوهان، إذ اعتبر أن وسائل الإعلام تفرض رأيها على الجماهير، وتتدخل في حياتهم اليومية ضمن أيديولوجيا معينة وأجندة مصممة. وإن كانت تلك هي نظرية ماكلوهان، فإن للشارع اللبناني نظريته أيضًا ليقول إن الحراك وصوته يفرض على أي إعلام سواء خاص أو عام، إلكتروني أو تلفزيوني.
مضامين الحراك الفكاهي
ويمكن للحراك الفكاهي أيضًا ضمن المجال اللبناني أن يُفهم على أنه انتقاص من شرعية السياسيين الذين لا يعملون لصالح المواطن، بل لصالح أنفسهم. وفي بعض المشاهد، يمكن ان ينظر إليه على أنه وسيلة من وسائل توسيع نطاق الاحتجاج ليشمل أكبر عدد ممكن من النقاط على مستوى لبنان. فكنا قد شهدنا في الآونة الأخيرة اتساع الحراك ليشمل مناطق بيروت وصيدا وصور وطرابلس، في نموذج من الاجتماع على ذات الروح والمطالب وحتى الطريقة العفوية. وعلى نقيض العنف المفرط في الفيديوهات التي ظهرت من دول عربية كثيرة، نجد الفيديوهات التي تخرج من الشارع اللبناني مليئة بالفكاهة لدرجة مطالبات بتعميم نموذج الاحتجاجات اللبناني كنموذج لحراك سلمي "شعبوي" فيه كل مقومات المجتمع.
ويمكن أن نقول إن الحراك اللبناني يرنو على لفت أنظار الإعلام ليكسب بهذا شهرة أوسع انتشارًا في العمق، على خلاف احتجاجات 2005 مثلا، من خلال لفت انتباه وسائل الإعلام العربية والدولية على اعتبار أن هذا النوع الفكاهي من الحراك يمهد لتغيير في الرأي العام.
وفي واقع الأمر لم تقتصر الفكاهة على الصور ومشاهد الفيديو التي تعرض تصرفات وأفعال عفوية للشعب اللبناني، بل يمكن اعتبار الهتافات التي صدحت بها حناجر الشباب اللبناني في الشارع مثالًا على النكتة السياسية والفكاهة الثورية. فإعادة إنتاج أغانٍ اعتادوا غناءها لكن ضمن قالب فكاهي، مثل أغاني "إنساي "و "بيبي شارك" لتصبح نشيدًا ضد السياسيين على مكبرات الصوت، ما هو إلا مثال على رغبة الشعب باستخدام الفكاهة كسلاح يجابه به السياسيين والنواب.
مواقف، صور، وفيديوهات
ففي واقع الأمر نجد العالم العربي اليوم يتداول فيديوهات وصور تحت مسمى "أطرف مشاهد" و"ألطف احتجاجات" كلها مصدرها شوارع بيروت ومدن أخرى. فنجد مطالب قد تبدو لمن لا يعرف روح اللبناني اللطيفة أنها غير محقّة وأنها لا تتطلب قيام احتجاجات تحت ذريعة "أولوية المطالب"، متناسيًا أن العفوية والفكاهة تدفع بالحراك قدمًا بنفس مستوى العنف والجدّية. صور حفلات الشواء وفيديوهات مشاركات فناني الكوميديا والنكات في الشارع، بالإضافة إلى فيديوهات تنقل حالات اجتماعية مثل الزواج والخطوبة أمام العامة في ساحات الاحتجاج، كلها تحسب للبنانيين على أنهم قدموا نموذجًا لحراك سلمي طريف بمطالب حقيقية.
اقرأ/ي أيضًا: ميادين لبنان ترفض ورقة الحريري
الإعلام والمشاركة النسوية
والملفت في مشاهد الحراك وفيديوهاته أن النساء كنّ حاضرات في المشهد ليخترقن بذلك كل ما يفرض عليهن من قيود مجتمعية، فكنّ محفزات لآخرين في فضاء من المساواة التي تصدّرت، سلبيًا، وسائل التواصل الاجتماعية، وإيجابيًا، القنوات التلفزيونية. وتصدرت صورة الفتاة التي ضربت بقدمها رجلًا مسلّحًا من رجال أحد النواب المشهد في القنوات التلفزيونية على أنها رمز لنسوة من شارع الاحتجاج، ما دفع الكثير للاستبسال في الهتافات والصمود في الساحات. ويعتبر الدور الكبير لفنانات وإعلاميات لبنانيات، مثل كارمن لبّس، رابعة الزيات، أمل حجازي، نادين نجيم وغيرهن، مثالًا لترسيخ حالة من المشاركة النسوية في حراك شعبي هو الأوسع في تاريخ لبنان تحت هاشتاغ "كلنا يعني كلنا" أطلقته فنانات وشخصيات إعلامية نسوية لبنانية في دعوة لنزول كل الشخصيات وكل الفنانين إلى الشارع لمناصرة الجماهير.
يمكن للحراك الفكاهي أيضًا ضمن المجال اللبناني أن يُفهم على أنه انتقاص من شرعية السياسيين الذين لا يعملون لصالح المواطن، بل لصالح أنفسهم
ويبدو التركيز الجانب النسوي للحراك اللبناني مثيرًا للجدل في ظل ما يتم تداوله من فيديوهات وصور على منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن موقفًا سلبيًا تشكّل تجاه اللبنانيات في الساحات. ويمكن للتركيبة المجتمعية اللبنانية المتداخلة أن تفرض هذا النوع من الظهور النسوي في الحراك. وللمتابع أن يفرّق بين النمطية السلبية التي يتم تصديرها من قبل بعض من يريدون ضرب سمعة الاحتجاج و"تمييعه" بدوافع سياسية أو حزبية أو "مناطقية" أو حتى ذكورية، وبين النموذج الحقيقي للفتاة اللبنانية التي خبرت المعترك السياسي بضرورة الحياة في مجتمع متعدد الأحزاب والتوجهات. وبهذا، فإن الوجه الحقيقي للفتاة اللبنانية، والذي أخفته المنصات الإلكترونية، أبرزته التقارير الإعلامية وعدسات الناشطين لنرى العنصر النسوي العقلاني الذي كرّس وجوده العفوي و الملازم للوجود الذكوري طافيًا على شاشات القنوات في قلب الحدث. وتفتخر النسوة اللبنانيات أمام عدسات المصورين بمشاركتهن على اختلاف أعمارهن، ما يضعهن في الخط الأول للحراك، ليضرب كلامهن بعرض الحائط كل من يرى فيهنّ مجالًا لتشويه سمعتهن وسمعة الحراك.
اقرأ/ي أيضًا: