يثير توغل القوات الأوكرانية في كورسك الروسية تساؤلات ذات وطأة قوية على "الكبرياء الروسي". فهذه هي المرة الأولى، منذ ثمانين عامًا، التي تنجح فيها قوات أجنبية في التوغل داخل الأراضي الروسية. وبالتالي، بات من المؤكد أنّ هذا الحدث سيترك أثرًا نفسيًا طويل الأمد على الشعب الروسي ونخبته العسكرية قبل السياسية.
وليس من المحسوم بعد ما إذا كان بمقدور روسيا إنهاء التوغل الذي بدأ في السادس من آب/أغسطس الجاري، وسط مخاوف روسية من أنّ استمراره وتأييد الغرب له قد يمنح أوكرانيا زمام المبادرة والمزيد من الدعم الغربي بأسلحةٍ هجومية ودفاعية نوعية من شأنها أن تغير قواعد اللعبة وتقلب الطاولة على موسكو.
وفي خضمّ تداعيات هذه الخطوة، يتزايد الحديث عن سيناريوهات اليوم التالي للتوغل الأوكراني في كورسك الروسية.
توغل القوات الأوكرانية في الأراضي الروسية يمنح كييف زمام المبادرة ويحفّز الغرب على دعمها بأسلحة نوعية جديدة
الاحتفاظ بميزة التوغل أطول فترة ممكنة
ستحقق أوكرانيا اختراقًا كبيرًا في الحرب طالما تمكنت من الحفاظ على توغل قواتها في الأراضي الروسية. وتشير تصريحات المسؤولين الأوكرانيين إلى رغبة كييف في ذلك، من خلال الحديث عن إقامة منطقة عازلة أو إدارات عسكرية أو إقامة حكمٍ عسكري في مناطق سيطرتها.
وفي هذا الصدد، أعلنت كييف، الأربعاء الماضي، على لسان وزير داخليتها إيغور كليمنكو، عن نيّتها إقامة منطقةٍ عازلة على الأراضي التي تسيطر عليها قواتها في مقاطعة كورسك الروسية. كما أشار الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى أنه بحث في اجتماع مع مسؤولين أوكرانيين: "إنشاء إدارات عسكرية، واحتمال فرض حكمٍ عسكري في المناطق التي تسيطر عليها قواته في مقاطعة كورسك الروسية".
وكان القائد العام للجيش الأوكراني، أولكسندر سيرسكي، قال في مكالمةٍ مع زيلنسكي إنّ "كل شيء يسير وفقًا للخطة"، وإنه: "على الرغم من القتال الصعب والمكثف، تواصل القوات الأوكرانية تقدمها في مقاطعة كورسك" وفق تعبيره.
وتنسجم التصريحات الأوكرانية مع تقديرات الخبراء العسكريين الغربيين التي ترجح استمرار المعارك في مقاطعة كورسك لفترة طويلة نسبيًا، في مسعى من جانب أوكرانيا لنقل الحرب إلى الأراضي الروسية لأطول وقت ممكن. ومما يؤكد ذلك أن الخطة الأوكرانية لمهاجمة كورسك وضعت بحيث لا يمكن تنفيذ الانسحاب إلى الأراضي الأوكرانية خلال فترة زمنية قصيرة جدًّا، وفقًا لخبراء عسكريين غربيين.
إلا أن سير الأمور يتوقف، حسب الخبراء الغربيين، على قدرة القوات الروسية في الرد، والشكل الذي ستتخذه المواجهات في الأيام أو الأسابيع المقبلة. يضاف إلى ذلك أنّ تكلفة استمرار سيطرة أوكرانيا على المناطق التي تحتلها في مقاطعة كورسك ستكون كبيرةً جدًا. ومن غير الوارد على الإطلاق، حسب نفس الخبراء، أن تسعى القوات الأوكرانية إلى توسيع هجماتها في الداخل الروسي كهدفٍ استراتيجي.
3 احتمالات لتطور المواجهات
يتحدّث المحللون العسكريون عن 3 احتمالات لتطور المواجهات في مقاطعة كورسك الروسية. يتمثل الاحتمال الأول في أن تتمكّن القوات الأوكرانية من مواصلة تقدمها. وهذا احتمالٌ ضعيف جدًّا بالنظر لمحدودية موارد أوكرانيا العسكرية، والتدابير الروسية المضادة. فضلًا عن انطوائه على مخاطر كبيرة في أن تكون المعارك المستقبلية في كورسك دموية، خاصةً إذا اختارت أوكرانيا أن تتعامل مع هذا الأمر بما هو هدف. وحينها لا بدّ من إسنادٍ غربي غير مسبوقٍ، وهذا من شأنه أن يقود لمواجهةٍ بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، ما يعني في عرف الأدبيات العسكرية "الحرب العالمية الثالثة".
ويدور الاحتمال الثاني حول فرضية المكوث لأطول فترة ممكنة، وهذا سيتطلب من الأوكرانيين وقف تقدمهم، والدفاع عن مناطق سيطرتهم الجديدة، وهذا احتمالٌ ممكن سيحسّن، في حال تواصله، الموقف التفاوضي لأوكرانيا في أي مفاوضات مستقبلية مع روسيا. لكنّ كلفة هذا الخيار باهظةٌ هي الأخرى، وسيكون بالضرورة على حساب أولويات أخرى من قبيل تحرير الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا. بل: "ربما يتحوّل هذا الخيار إلى فخٍّ لاستنزاف القدرات الأوكرانية" حسب محللين.
أمّا الاحتمال الثالث، فيتمثل في أن تتمكن روسيا، بفضل التعزيزات العسكرية الكبيرة، من احتواء الهجوم الأوكراني على كورسك ودفع القوات الأوكرانية إلى خارج حدود البلاد، وهو احتمال راجحٌ بقوة، والشيء الوحيد غير المؤكد فيه، حسب المحللين، هو عامل الوقت فقط وسرعة القوات الروسية في الخروج من وضع الصدمة والارتباك.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ تصريحات المسؤولين الروس تكشف أنّ بوتين لا ينوي سحب جزءٍ من قواته من دونيتسك إلى كورسك، ويرى المحللون أنّ موسكو إذا استطاعت طرد القوات الأوكرانية من أراضيها وواصلت تقدمها في دونيتسك، فإن: "النجاح التكتيكي لأوكرانيا يمكن أن يتحوّل إلى هزيمةٍ كبرى. وعلى العكس إذا خفّ الضغط عن دونيتسك، وتمكنت أوكرانيا من التقاط أنفاسها لتعزيز دفاعاتها، وضخ أسلحةٍ وعناصر بشرية جديدة، فإن مغامرة الهجوم على كورسك قد تحقق هدفًا".