ساهمت بداية الحرب الروسية في أوكرانيا في إثارة قضايا عديدة، وإلقاء الضوء على أماكن أخرى من العالم، وحجبه عن غيرها. جاء ذلك في معظمه نتيجة الاستقطاب الحاد في العالم حاليًا. وبينما تتصدر قضية الحرب في أوكرانيا عناوين الأخبار، تخفُت تلك القادمة من سوريا، وهو مسار دخلت فيه البلاد التي اندلعت فيها ثورة ضد نظام الأسد قبل 11 عامًا، خلال السنوات الأخيرة، بعد انخفاض في التحرك على الأرض، وتحولها إلى قضية إنسانية في الكثير من الأحيان مرتبطة باللاجئين ومصيرهم، فيما يبدو أن النظر في مستقبل النظام السوري ضمن النظام الدولي الحالي، لم يعد أولويةً في الفترة الحالية.
الحرب الروسية في أوكرانيا استدعت مباشرةً الحرب التي تخوضها موسكو في سوريا أيضًا، فقد كانت سوريا أول تدخل عسكري روسي كبير في العالم منذ تفكك الاتحاد السوفيتي
حضور سوريا في الحديث الإعلامي اقتصر على كونها هامشًا للإشارة لبعض التكتيكات الروسية الحربية، أو كمدخل من أجل استقاء العبر وتعلم الدروس في التعامل مع بوتين. كمثالٍ على ذلك، قال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا خلال اجتماع استثنائي لوزراء خارجية دول الناتو، "لا تسمحوا لبوتين، بتحويل أوكرانيا إلى سوريا ثانية".
أما الحرب الروسية في أوكرانيا، فاستدعت مباشرةً الحرب التي تخوضها موسكو في سوريا أيضًا، فقد كانت سوريا أول تدخل عسكري روسي كبير في العالم منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، كما أنها كانت المرة الأولى التي تخوض فيها روسيا القتال في دولةٍ لم تكن ضمن الدول التي حصلت على استقلالها إثر تفكك الاتحاد السوفيتي. كما أنه في قراءات استرجاعية عدة، تم الربط بين الصمت الدولي على التدخل الروسي في سوريا، وتمدد القوة الروسية "وغطرسة القوة لدى بوتين"، مما أعطى حافزًا لموسكو من أجل غزو كييف.
المواقف السورية من الغزو جاءت متوقعةً إلى حدٍ كبير، دون أن تحمل أي مفاجآت كبيرة. قد يكون موقف النظام السوري من الحرب الروسية في أوكرانيا هو الأكثر دعمًا لموسكو في حربها ضد أوكرانيا، فقد اعتبر الأسد الحرب "تصحيحًا للتاريخ وإعادة التوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفياتي"، واصفًا القرارات الدولية التي اتخذت ضد روسيا عقب غزو أوكرانيا بأنها "هيستريا غربية تأتي من أجل إبقاء التاريخ في المكان الخاطئ لصالح الفوضى التي لا يسعى إليها إلا الخارجون عن القانون".
الأسد الذي أكد على وقوف نظامه مع روسيا أشار إلى أن ذلك يأتي "انطلاقًا من قناعته بصوابية موقفها، ولأنّ مواجهة توسع الناتو هو حقٌ لروسيا لأنه أصبح خطرًا شاملًا على العالم وتحول إلى أداةٍ لتحقيق السياسات غير المسؤولة للدول الغربية لضرب الاستقرار في العالم". وفي تبنٍ كامل للخطاب الروسي حول مبررات الحرب، قال الأسد، "العدو الذي يجابهه الجيشان السوري والروسي واحد، ففي سوريا هو التطرف وفي أوكرانيا هو النازية"، بحسب ما جاء في بيان لرئاسة النظام السوري.
أما الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية فقد أدان الحرب الروسية في أوكرانيا، قائلًا "إن حياة ملايين الناس ليست رخيصة لتكون مجرد أرقام في بازار السياسة أو مجرد أوراق يقامر بها بوتين ويخوض بها مغامرات إجرامية ستسفك أنهارًا من دماء الشعب الروسي قبل أي شعب آخر"، مضيفًا "لا يريد الشعب السوري أن يشهد المزيد من الإجرام الروسي المقترن بخذلان دولي في أي جزء جديد من العالم، بعد ما عانى وما يزال يعاني من مجازر روسيا وجرائمها في سوريا"، مشيرًا إلى أن الشعب السوري يعرف مآسي الحرب، لذلك يقف إلى جانب الشعب الأوكراني ويدعم مقاومته للعدوان الروسي ويدعم دفاعه الشجاع عن وحدة بلاده وسيادتها.
مقاطعة شاملة.. لكن ليس في سوريا
على المستوى الميداني، وبالنسبة لأمريكا، تبدو سوريا خارج الحرب وحتى خارج الصراع مع روسيا والتضييق عليها. فرغم العقوبات وقطع التواصل الأمريكي مع موسكو، إلّا أنّ قنوات تواصل الجيش الأمريكي مع القوات الروسية المتواجدة في سوريا ما زالت فعالة من أجل ما سمي "بمنع تضارب المصالح". إذ إن الخطاب الصارم ضد روسيا، والمجازات التي تصف زعماءها بالنازيين، ولغة القطيعة الشاملة معها، لا تشمل سوريا، فقناة اتصال وتنسيق مفتوحة بين القوات الأمريكية والروسية في سوريا منذ بداية الدخول الروسي إلى البلاد لا تزال متواصلة. فيما يبدو، أن الإدارة الأمريكية غير معنية بالتصادم مع القوات الروسية في سوريا.
وسوى المقارنات والمجازات، كانت الإشارات الأمريكية الوحيدة إلى سوريا مرتبطة بما نقلته مصادر من الإدارة الأمريكية عن كون موسكو تعمل على تجنيد مقاتلين سوريين شاركوا في قمع الثورة السورية، بهدف المساهمة في الحرب الروسية في أوكرانيا. وحسب المصادر، يساعد هؤلاء على التقدم الروسي بشكلٍ كبير تجاه مناطق حضرية أوكرانية، أبرزها العاصمة كييف. وتسعى روسيا للاستفادة من خبرات المقاتلين السوريين في القتال داخل المدن.
لمصادر الأمريكية أشارت إلى تواجد بعض هؤلاء المقاتلين في روسيا حاليًا، وهم على استعداد للدخول إلى الحرب، مع استمرار المحاولة الروسية لتجنيد المزيد من المقاتلين، ووجود تقارير أشارت إلى عروض مالية روسية للمقاتلين تتراوح بين 200-300 دولار أمريكي من أجل المشاركة في القتال داخل المدن.
بنفس المنطق، أشير إلى أن القتال الروسي في سوريا كان مفيدًا لموسكو على المستوى العسكري، بما في ذلك الضربات الجوية "المُركزة"، ودمج القوات الجوية والبرية، والحرب الإلكترونية، كما ساهمت التجربة السورية، حسب هذه التصريحات، في رفع جاهزية الجيش الروسي باستمرار، حيث اختبرت روسيا 300 نوع جديد من الأسلحة خلال حربها في سوريا. واختبرت طريقة الحرب "متعددة المجالات"، بما في ذلك الأسلحة بعيدة المدى وحملات القصف الواسعة، واستخدام قوات شبه عسكرية/ نظامية.
نفوذ إسرائيلي أكبر وصراعات روسية إيرانية محتملة
الثابث الذي لم يتغير، هو الغارات الإسرائيلية المستمرة، ففي يوم الاثنين 7 مارس/ آذار، سمع دوي انفجارات في محيط مطار دمشق الدولي، قتل خلالها عنصرين وأصيب 6 آخرين من المليشيات الإيرانية المتواجدة في سوريا، نتيجة قصف إسرائيلي نفذ من الأجواء اللبنانية. وهي جزئية أكدت العديد من التحليلات الإسرائيلية على أهميتها، وربطت جزءًا من الموقف الإسرائيلي الحذِر من حرب أوكرانيا، في ضرورة استمرار التنسيق الإسرائيلي- الروسي، من أجل إعاقة التموضع الإيراني في سوريا.
في السياق ذاته، يبدو أن صراعات النفوذ في سوريا بين حلفاء الأسد يمكن أن تتمدد. إذ يمكن أن تكون الأحداث الجارية فرصةً لإيران من أجل زيادة نفوذها على حساب الحليف الروسي. فقد أشارت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، إلى أن إيران نشرت منظومات دفاعها الجوية في سوريا، وبدأت باستخدامها مؤخرًا في مواجهة الغارات الإسرائيلية المستمرة منذ سوات في سوريا، من أجل منع عمليات تهريب السلاح.
ومن ناحية أخرى، تعتبر إيران الحرب في أوكرانيا فرصة لتوسيع تعاونها مع أطراف داخل النظام السوري، في ظل صراع النفوذ في سوريا، خاصةً أن إيران قد تحظى بقبول دولي أكبر، في حال إتمام المفاوضات الدولية حول برنامجها النووي بنجاح. هذا التطور الذي يعتمد على نتائج مفاوضات فيينا، بالتزامن مع العقوبات على روسيا والمساعي لعزلها، قد يعيد ترتيب بعض الحسابات في سوريا، خاصة فيما يتعلق بمساعي النظام إلى تطبيع علاقاته عربيًا ودوليًا. يبقى ذلك بالتأكيد مرتبطًا بالحسابات الإسرائيلية، حيث إن العلاقة بين موسكو وتل أبيب مفتوحة على خيارات عديدة، بالنظر إلى الموقف الإسرائيلي القريب إلى الحياد، على خلاف نسبي مع مواقف الدول الغربية.
مصير غامض للمفاوضات السورية
في سياق متصل، فإن تزايد العقوبات العالمية على روسيا، باعتبارها لاعبًا رئيسيًا في سوريا، خاصةً مع انعدام شرعية رئيس النظام السوري بشار الأسد دوليًا وعدم تفضيل التعاون مع إيران، قد يعيق المفاوضات الدولية حول سوريا، وسيقلل من إحراز التقدم حتى في المواضيع الإنسانية.
كما أن العملية السياسية التي يقودها المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا جير بيدروسون من أجل "إنهاء الحرب" واتبعت استراتيجية "خطوة بخطوة" من خلال عمل دبلوماسي متعدد الأطراف، والتي كانت آمال نجاحها ضئيلة أصلًا، تتعرض الآن إلى ضربة أكبر.
آثار على اقتصاد منهار
على المستوى الاقتصادي، ظهرت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا على سوريا بشكلٍ سريع. ففي أول أيام الحرب، قرر النظام السوري خفض الإنفاق الحكومي العام وتغطية الأولويات فقط، واستمرار إدارة احتياطيات المواد الأساسية مثل القمح والسكر وزيت الطهي والأرز في الشهرين المقبلين، وتكثيف الرقابة على السلع وتقنينها، خاصةً أن سوريا تعتمد على روسيا في واردات القمح.
ولعل هذا ينذر في تفاقم الكارثة الإنسانية في سوريا، فقد أشار آخر تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن عدد المحتاجين للمساعدات الإنسانية في سوريا قد وصل إلى 14.6 مليون شخص، في زيادة 9% عن العام الماضي بمقدار 1.2 مليون شخص. فيما تصنف سوريا من بين أول 10 دول في العالم تعاني من انعدام الأمن الغذائي، مع تضاعف تكلفة إطعام أسرة من 5 أفراد بالمواد الغذائية الأساسية خلال العام الماضي، حيث تنفق الأسرة 50% أكثر مما تكسب على احتياجاتها الغذائية.
لاجئون جدد و"أوروبيون"
أثر حرب روسيا سيظهر أيضًا على مستوى واضح آخر، وهو ملف اللجوء. فنتيجة التكتيك العسكري الروسي الذي كان يقوم على قصف مكثف للمدن مع إطباق الحصار عليها، ولاحقًا فتح باب التسويات والتهجير للمناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة، إلى جانب العنف الذي استخدمه الأسد في مواجهة الثورة، فقد نتج حوالي 5.7 مليون لاجئ مسجل لدى الأمم المتحدة يحتاجون إلى إعانة ومساعدات، كانوا يعانون بالفعل نتيجة تقلصات في التمويل من قبل الدول المانحة، وبالأخص من قبل بريطانيا.
ومع ظهور أزمة اللجوء الأوكرانية، وتفاقمها، وظهور ما يزيد عن 2 مليون لاجئ حتى الآن، فإن جزءًا كبيرًا من التمويل سيتجه نحو شرق أوروبا من أجل معالجة الأزمة الطارئة، خاصة مع البلاغة العنصرية التي انتشرت في خطاب الرسميات الغربية، وفي وسائل الإعلام وتدخلات المراسلين والمحللين، والتي اعتمدت على التأكيد على أن اللاجئين الأوكران أهم، وأن معاناتهم أجدر بالاهتمام.
فرص محدودة
شكلت الحرب في أوكرانيا والموقف الدولي المضاد لها، دافعًا للائتلاف السوري المعارض، من أجل زيادة تحركاته الدولية، في محاولته تحقيق مكاسب سياسية. فقد طالب الائتلاف خلال اجتماعه مع الفريق الفرنسي المختص في الملف السوري، بضرورة تغيير السياسات الغربية تجاه الملف السوري ومنحه أهميةً أكبر. وفي الوقت الذي يظهر فيه الحديث عن إعادة عدة دول عربية عملها على إعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، أكد الائتلاف خلال زيارته لجامعة الدول العربية، على ضرورة استمرار عزل النظام السوري وعدم الانخراط في شرعنته، أو إعادة قبوله في جامعة الدول العربية، والمطالبة بتسلم الائتلاف المقعد السوري في الجامعة، باعتباره الممثل الشرعي للشعب السوري.
لقد كانت سوريا نقطة التقاء للمصالح الاستراتيجية لإدارة بوتين، فقد كانت ساحةً من أجل تجارب الأسلحة الروسية الجديدة، بالإضافة إلى حصولها على موطئ للمياه الدافئة، واختبارًا لقدرتها على التدخل العسكري في مكان بعيد عن حدوده، والنظر إلى رد الفعل العالمي عليه. وربما ساهم التدخل الذي مر في سوريا دون ردود أفعال ضخمة عالمية أو بهدوء، في زيادة الدافعية الروسية نحو غزو أوكرانيا.
مع ظهور أزمة اللجوء الأوكرانية، وتفاقمها، وظهور ما يزيد عن 2 مليون لاجئ حتى الآن، فإن جزءًا كبيرًا من التمويل سيتجه نحو شرق أوروبا من أجل معالجة الأزمة الطارئة
أما في المستقبل، وفي ظل الخيارات المفتوحة في الحرب، وفي حال تعززت العقوبات على روسيا، فقد تكون سوريًا مخرجًا للروس، من خلال تحويلها إلى سوق سوداء سعيًا منها لترويج الصادرات النفطية من خلال تحايلها على العقوبات المفروضة عليها. كما أن إعادة إعمار سوريا، لو حدثت، قد تكون فرصةً للشركات الروسية هي في أمس الحاجة إليها، من أجل الحصول على هذه العطاءات وتعويض الخسارات التي تعرضت لها نتيجة غزو أوكرانيا.