من روما مدينة الرخام كما أُطلق عليها أيام نشأتها الأولى قامت واحدة من أهم وأعرق حضارات الأمم، وإن كانت سنّة الدهر زوال الأمم واستبدالها، إلا أننا لن نجد حضارة واحدة زالت دون أي أثر، فما الحضارة اللاحقة إلا علو قام على وتد، وما الوتد هذا إلا ما سبقها من حضارات، وهكذا دواليك حتى يومنا الحاضر، وإن للحضارة الرومانية كبير الأثر الممتد في شتى بقاع الأرض العربية منها والغربية، فما هي الحضارة الرومانية وكيف نشأت وبماذا تميزت؟
نشأة الحضارة الرومانية
في حدود دولة مترامية الأطراف وعلى مدار أكثر من ألف عام شكلت الحضارة الرومانية أساسًا راسخًا لها لا يمكن تجاهله ابتداءً من تأسيس العاصمة روما في القرن الـ8 قبل الميلاد وحتى سقوطها في القرن الـ5 الميلادي.
بالعودة لنشأة الحضارات عامة نجد أن خصوبة التربة وتوافر المياه العذبة تعتبر سببًا أساسيًا لاختيار عاصمتها وهما ما امتازت به روما الواقعة على نهر التيبر، ومنها انتشر امتداد رقعة الدولة الرومانية لتشمل أيطاليا وفرنسا وبريطانيا ومصر وغيرها من دول الشرق الأوسط وأوروبا.
أباطرة الرومان..صراع من أجل البقاء
في النظر للتاريخ عامة سنجد أن الكثير من الأحداث هي أحداث مكررة، وكأن الوجود الإنساني في حيز جغرافي معين كفيل بإعادة الأحداث نفسها على مر السنين ناهيك عما يجاريها من تطور، وسنجد كذلك أن النفس البشرية هي ذاتها النفس البشرية طال الزمان أو قصر، فإن رغبتها في السيطرة ونزعة الأنا لا بد لها من الظهور، بل والانتشاء طالما حازت سلطة ونفوذًا على غيرها من البشر. هذا الصراع الأزلي الدائر بين أصحاب السلطة كان لا بد من وجوده في ظل الدولة الرومانية خاصة وهي دولة شاسعة الامتداد مترامية الأطراف حد الريبة.
وعلى أن معظم الأباطرة الذين حكموا روما قديمًا كانوا حكامًا شرعيين إلا أنهم عانوا من المكائد والحيل التي كان لا بد من التصدي لها من أجل البقاء، فمنهم من استطاع ذلك بالجبروت والقوة والحرب مثل نيرون ويوليوس قيصر، ومنهم من تم التخلص منه دون مقاومة تذكر مثل كاليجولا الذي تم التآمر عليه والتخلص منه على يد مجلس الشيوخ والحرس الإمبراطوري، لذا كانت عملية الحفاظ على استمرارية السلطة وليس الحصول عليها بالدرجة الأولى هي الشغل الشاغل لتفكير أباطرة الرومان.
كان ما لا بد من الحصول عليه بالنسبة للإمبراطور الروماني هو تأييد الجيش بالدرجة الأولى؛ فهو عمليًا القائد الأعلى له يأتي بعد ذلك إجماع مجلس الشيوخ ثم رضوخ الشعب لحكم الإمبراطور، ولا يعني ذكر رضوخ الشعب لحكم الأمبراطور في النهاية أهمية أقل، ذلك أن روما عانت من ثورات وتقلبات شعبية كثيرة كما شهدت حروبًا أهلية طاحنة كان لها أثرًا كبيرًا في أفول شمس حضارتها، إلا أن الشعب في عين الحاكم يبقى هو الشعب، الذي إن لم يرضخ طواعية تحدث معه بلغة السلاح؛ القمع والترهيب، وشواهد التاريخ القديم والحديث على هذا مطروحة على الطرقات لمن يرى.
تقسيم الإمبراطورية..محاولة جمع الشتات
في عام 286 م تم تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى إمبراطوريتين (شرقية وغربية)، أما الغربية وعاصمتها روما نازعت العديد من الحروب والصراعات الداخلية والخارجية إثر الهجوم المتتالي من قوىً متفرقة من العالم بغية الفوز بأراضيها وحضارتها، واستمرت في الانحدار حتى لفظت أنفاسها الأخيرة عام 476 م. أما في الإمبراطورية الشرقية أو البيزنطية كما يُصطلح على تسميتها وعاصمتها القسطنطينية (اسطنبول الآن) فقد شهدت زهوًا واستمرارًا على النقيض من شقيقتها الغربية وطال بها العهد حتى سقوطها المدوي على يد الأتراك العثمانيين عام 1453 م.
نار نيرون..حريق روما العظيم
على حد قول المؤرخ الروماني تاسيتس:"على الرغم من أن نيرون كان خارج روما عندما بدأ الحريق، انتشرت شائعة بأن الإمبراطور كان يعزف الموسيقى ويغني عن دمار طروادة من منصة قصره".
وهكذا عرف عن الإمبراطور الروماني نيرون طوال سنوات عديدة أنه كان من أشعل نارًا التهمت ثلثي روما وهو ما عرف بالتاريخ بحريق روما العظيم، فما هو دليل ذلك؟
لم يحصل المؤرخون حقيقة على دليل دامغ، إلا أن ما قيل حول الطلب الذي قدمه نيرون لمجلس الشيوخ قبيل الحريق وتم رفضه وكان بخصوص بناء سلسلة من القصور الخاصة له قد شكل لدى نيرون رغبة في التمرد على مجلس الشيوخ، ناهيك عن تشييد القصر لاحقًا بعد خمود النار، مما جعل العديد من المؤرخين ومنهم سويتونيوس يلقون التهمة عليه، ولكن، هل هذا فقط ما أدى لإلصاق التهمة به؟
في الواقع لا، مما عرف عن نيرون أنه كان ذو ميول غريبة وشاذة ومخالفة للفطرة والطبيعة البشرية، اتهمه البعض بالـ(عته)، وآخرون بجنون العظمة، وسواء فعل في الواقع أم لم يفعل إلا أن التاريخ قال كلمته بأقلام المؤرخين، حتى أننا الآن لا نكاد نذكر هذا الحريق إلا ويتبادر إلى خيالنا فورًا صورة ذاك الإمبراطور الشاب الأرعن الذي عزف من شرفة قصره لحنًا عن دمار طروادة عندما كانت روما تحترق.
إمبراطورية روما..حضارة مشرقة
ماذا يتبادر إلى أذهاننا عندما نقول الحضارة الرومانية؟
غالبًا ستكون الحضارة المعمارية نظرًا لحضورها الراسخ حتى يومنا الحالي في شتى أصقاع الأرض، إلا أن الحضارة الرومانية لم تقتصر فقط على البنيان وإنما كانت حضارة شاملة لكل نواحي الحياة من المعمار والفن والترجمة والأدب الذي تشهد له آثار المسارح الخالدة ونقوش المعابد والبنيان، كما كان لهم دورًا بارزًا في وضع أساسيات التقويم وعدد أيام السنة وتسمية الشهور.
كل الطرق تؤدي إلى روما
وما كانت المقولة إلا لأصل راسخ في التاريخ، فبعيدًا عن مساحات الدولة البعيدة التي امتدت عبر الكثير من الأراضي تحت حكم الإمبراطورية الرومانية ما يجعل من المقولة حقيقة فروما في كل مكان، إلا أن الرومان كذلك عمدوا إلى إنشاء وتسهيل الطرق التي تصل بين أرجاء الدولة عامة ويعتبر شق الطرق بهذه الحرفية من أبرز إبداعات الرومانيين في العمارة، الآن طرقًا كثيرة في أوروبا وآسيا وإفريقيا كذلك مهدها وأنشأها الرومان، إذن كل الطرق روما.. وتؤدي إليها.
وتعتبر العمارة الرومانية فنًا مفعمًا بالجمال والإتقان ويعتبر من أهم النماذج المعمارية التي تدرس في الجامعات حتى الآن، وعلى التشابه الكائن بين العمارة اليونانية والرومانية، إلا أن الرومانية تميزت بعد العام الـ100 قبل الميلاد بالرخام المكسو بالذهب الذي استخدم على نطاق واسع لإعمار روما. كما تميزت مبانيها بالشرفات الواسعة الأخاذة، والساحات الممتدة لغايات ألعاب المبارزة وركوب الخيل والصراعات، ومن أبرز الآثار الرومانية:
- الكولوسيوم وهو من أبرز الأمثلة على العمارة الرومانية القديمة
- المنتدى الروماني
- دوموس أوريا
- سوق تراجان
- عمود تراجان
- سراديب الموتى
- سيرك مكسيموس
- حمامات كركلا
- قلعة سانت أنجلو
- الحمامات الرومانية. وقد تميزت الحمامات الرومانية بتطور كبير في تقنية إيصال المياه إليها حيث تميز الرومان بوسائلهم المبتكرة في شق وتمديد القنوات المائية.
حياة الشعب..تقسيم متعارف عليه
كحال كل الشعوب في كل الدول قديمًا أم حديثًا انقسم الشعب في روما القديمة إلى طبقات متعددة هي:
- أصحاب النفوذ والسلطة: وتميزت حياتهم بالرفاهية ومساكنهم المسماة بـ دوموس كانت تعتبر من أرقى المنازل في روما حيث قاعة طعام منفصلة وأخرى للجلوس وغيرها للنوم وهكذا، وغالبًا ما احتوت على برك سباحة في فنائها.
- عامة الشعب: وهم الطبقة العادية من المجتمع الروماني يعيشون في أماكن مزدحمة ومنازلهم تسمى بـ إنسولاي ارتفاعها يبلغ من خمسة إلى سبعة طوابق.
- العبيد: وهم الأغنياء عن التعريف عمليًا، فهم من يتم جلبهم لغايات الخدمة على اختلاف أنواعها، وعلى الرغم من أنه كان بإمكانهم تحرير أنفسهم إلا أنهم كانوا أكثر طبقات المجتمع تدنيًا اقتصاديًا واجتماعيًا.
وعلى هذا فإن الشعب الروماني فقيره وغنيه كان يميل إلى الاسترخاء وجلسات الساونا، نعم الساونا، المنتشرة في الحمامات الرومانية وكثيرًا ما كانوا يتواجدون فيها دون تمييز أو عنصرية.
نساء الدولة الرومانية..وجهات نظر يثبتها التاريخ
هناك من يقول إن النساء في العصر الروماني ما كانت إلا سلعة في يد الأب ثم الزوج، لا حق لها في الحياة ولا الرأي ولا أي شيء، هي مملوكة للرجل لغاية المتعة فحسب. ورأي آخر يقول أن المرأة الرومانية عرفت بجسارتها وقوتها ورأيها الواثق المسموع بين أوساط الرجال.
في الواقع لا نغلب رأيًا على الآخر، فالحال هو الحال منذ أن خلق الله الأرض، فمن ولدت من النساء لعائلة ثرية متنفذة لها وزن لا يستهان به في الدولة سترث من عائلتها كل ما سبق، وأما من شاءت لها أقدارها أن تولد لعائلة فقيرة مهمشة سيكون مصيرها أن تكون مملوكة لا محالة، على أنه في الحالتين لم تختر إحداهن حياتها حرة كانت أو مملوكة.
ومن أبرز الشخصيات النسائية في الدولة الرومانية فولفيا التي قادت جيشًا وأصدرت عملات معدنية تحمل صورتها، و نساء سلالة جوليو كلوديان وأبرزهن ليفيا أغرينينا الصغرى وهما اللتان ساهمتا في تشكيل الأعراف الإمبراطورية، و الإمبراطورة هيلينا التي كانت قوة داعمة في الترويج للمسيحية.
إن أكثر ما يميز الحضارة الرومانية هو هذا الرسوخ المتجذر في بلادنا حتى يومنا الحاضر، هذا الإرث الحاضر في بلادنا ولا يمكن التغاضي عنه لا يشير إلا إلى حضارة عريقة أثبتت على مر أكثر من ألف عام أنها جديرة بالنهضة والاستمرارية.