لمن يعرف دمشق جيدًا، كانت صالات السينما علامات فارقة في شوارعها، وعناوين استدلال عندما تريد أن تعطي أحد ما مكان تواجدك، فمثلًا أنت في شارع 29 أيار هذا يعني أنك بجوار صالتي السفراء والزهراء، وأما إن كنت في ساحة "المرجة" فيمكنك أن تشير لصاحبك أنك تتواجد بالقرب من صالة سينما "غازي" أو بيبلوس، وأما إن كنت في جوار سوق الحميدية، فأنت بالضبط بجانب سينما سورية التي هدمت منذ عقود طبعًا.
لمن يعرف دمشق جيدًا، كانت صالات السينما علامات فارقة في شوارعها، وعناوين استدلال عندما تريد أن تعطي أحد ما مكان تواجدك
هكذا كانت 14 صالة سينما في العاصمة السورية دمشق متوزعة على جغرافيا المدينة الأعرق في الشرق.
سينما السبعينات الغزيرة
شهدت هذه الفترة بالتحديد فورة الإنتاج السينمائي الخاص الذي امتد حتى أواسط التسعينات ثم توقف نهائيًا، وحينها كانت صالات السينما تغص بالزبائن والحكايات، وكان حضور فيلم جديد يشكل طقسًا أسريًا وعاطفيًا، ولم تكن العائلات الدمشقية بغائبة بل حاضرة بقوة، ولم تكن عيبًا اجتماعيًا كما آلت إليه الرؤى فيما بعد، وعلى الحضور أن يتأنق.
فلم يكن يسمح بدخول من لا يرتدي بزة رسمية كما حدثني أحد أقدم العارضين بتاريخ السينما السورية وهو عارض سينما "ديانا" المتموضعة في شارع الفردوس بقلب دمشق، ويمنع أيضًا الدخول بالبزات العسكرية، وهذه الحال استمرت حتى زمن ابتذال المشهد الثقافي بدمشق حين صارت الصالات وكرًا للزعران والعساكر الفارين من الخدمة، والطلبة الهاربين من المدارس، وبعض الحشاشة وشذاذ الأفق.
اقرأ/ي أيضًا: 4 من أجمل أفلام السينما الإيطالية على الإطلاق
عدا إنتاج القطاع الخاص السوري كان الاستيراد مفتوحًا لأصحاب الصالات، وكان جديد السينما العالمية يصل إلى الصالات في وقت قياسي، وأما الإنتاج المحلي فبالكاد تخلو صالة من فيلم جديد كل شهرين، وفي هذه المرحلة ظهرت أفلام دريد ونهاد ومعهم مجموعة من نجوم السينما المصرية.
كذلك استوعب الإنتاج الخاص عطالة وركود السينما المصرية فاشتغل نجوم السينما المصرية في أدوار ثانية وأولى بأفلام سورية كشادية (حلاق السيدات) وفريد شوقي (اللصوص الثلاثة) ومحمود عبد العزيز(جزيرة الشيطان) وميرفت أمين، ونيللي (سروال وميني جوب) مع رفيق سبيعي ومحمود جبر.. إلى آخر هذه القائمة التي لا تنتهي من الأعمال.
داء مؤسسة السينما
كما كل مؤسسات الدولة السورية، حل وباء القطاع العام كاللعنة على القطاع الخاص وأجهضه، واحتكرت مؤسسة السينما الاستيراد، وحلت كرقيب ومنافس مع القطاع الخاص الذي تعرض لضربة كبيرة، وبدأت مرحلة إنتاج الفيلم الواحد لمجموعة من المخرجين المحسوبين على المؤسسة ومديرها محمد الأحمد (وزير الثقافة الحالي).
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Tickling Giants".. عن باسم يوسف وجلد السلطة الغليظ
فاقتصر الإنتاج على أفلام المهرجانات التي تبحث عن الجوائز (أحلام المدينة، رسائل شفهية، ليالي ابن آوى) وأما قائمة المخرجين فهم عبد اللطيف عبد الحميد، وغسان شميط، وسمير ذكرى، ومحمد ملص والأخير كان أميزهم.
وأما بقية الصالات فبدأت باجترار مخزونها من الأفلام القديمة الهندية والأكشن الأمريكية، وذهبت أفلام مؤسسة السينما لصالح صالة الكندي التابعة لوزارة الثقافة السورية وأما مريدوها فهم من طلبة الجامعة وبعض المثقفين والمهتمين، وبقية الموسم هي لعروض المهرجانات، والتظاهرات السينمائية التي لا جمهور لها.
صالات الخواء
وصل حال أصحاب الصالات إلى حد الكارثة فلم تسمح لهم وزارة الثقافة ببيع صالاتهم واستثمارها في مهن أخرى لسنوات طويلة، ولم يعد بمقدورهم حتى دفع أجور الكهرباء وبعض العاملين الذين تم طرد نصفهم لعدم القدرة على دفع مرتباتهم الهزيلة، والزبائن إما من يبحث عن نوم هادئ في صالة معتمة أو هارب من المدرسة والجندية.
اشتغل نجوم السينما المصرية في أدوار ثانية وأولى بأفلام سورية كشادية (حلاق السيدات) وفريد شوقي (اللصوص الثلاثة)
وفقط بقيت على قيد الحياة سينما الشام التابعة لفندق الشام المدللة الوحيدة التي كان بمقدور أصحابها الحصول على أفلام جديدة، وهي ليست جماهيرية بسبب غلاء تذاكرها، وعدم شعبية أفلامها، وسينما سيتي التي كانت سينما "دمشق" بجوار بردى وتم استثمارها وتحويلها إلى خمس صالات مع مطاعم وكافيهات جاء استثمارها في وقت ابتعدت فيه السينما عن جمهورها في دمشق، واقتصر زبائنها على أبناء الذوات والعشاق.
القاع الغني
يستذكر من عاشوا مرحلة الخصب تلك الفترة بكثير من الحنين عندما كانت دمشق حاضنة ثقافة وفن. كان الألق هو السينما والمسرح والنوادي الثقافية والتشكيلية (الرواق) ومقاهي الشعراء والمعارضين والمريدين.
أما صالات السينما بكل آفاتها ومشاكلها فقد كانت مواعيد عشق وشغف في قاع مفتوح لكل الطبقات، خصوصًا أولئك الحالمين بغدٍ لم يتمنوه على شاكلة حاضر الموت.
اقرأ/ي أيضًا: