"يوم أفني كل ما خلقت، وتعود الأرض محيطًا بلا نهاية، وحدي أنا سأبقى، وأكون كما كنت دومًا، أفعى خفية، عصية على الأفهام".
- إيزيس
زحفت الأفعى الصفراء الفاقعة على الجدار الخارجي للمنزل، قاصدةً النافذة، عبر الشَّقِ الصغير الذي تركه أحمد مفتوحًا تملَّصَت، ونزلت إلى السرير حيث يرقد في نوم قَلِق، توجهت نحوه وكأنها تعرف فريستها تمامًا، وكأنها أقبلت إليه خِصيصًا. عيناها السوداوان كالأزرار الزجاجية تحدقان به، وصورته تنعكس على سَطْحيهما الــمُحدَّبين. صعدت فوق صدره، وبطولها الذي يصل إلى متر، انتصبت وفتحت فمها، مدت لسانها الأزرق المشطور، وفَحَّت بكل قوتها حتى كاد داخلها يصبح خارجها.
لن يثنيه أمرٌ عن الذهاب إلى القرية اليوم، حتى الحلم المزعج الذي راوده، وجعله يتصبب عرقًا في صباح تشريني بارد، ففي نهاية المطاف تروق له الأفاعي ويعجبه شكلها ورمزيتها. رتّب سريره، غسل صحون الإفطار، تهندم وخرج.
سينطلق به السرفيس الأبيض من كراجات السومرية، حتى ناحية خان أرنبة، ومن هناك سيتجه إلى قريته البريقة، وحقيقة الأوضاع في تلك القرية النائية محتجبة في الغالب عن العوام. الاتصالات والكهرباء والإنترنت جميعها انقطعت، بعض المكالمات عبر الهواتف المحمولة إلى سكان الضيعة القابعين في ملاجئها، تنقل الخبر اليسير عن أوضاعهم المتدهورة بنفاذ الطعام والماء والوقود.
الصور السريعة للمشاهد الخارجية يتلقفها دماغه عبر النافذة، بالسرعة ذاتها، ويرميها في ثقب ما، يقرأ منها فقط أسماء البلدات والقرى التي تتجاوزها عجلات الباص. انهمك بالتفكير في الحالة الآنية للقرية، ومهما نأى بنفسه عن الاستطراد والسرد الصوري وجد أحواله مكبلة، ومحتجزة ضمن دائرة الأخطار المحتملة. وبسبب التَوَجُّس والتَهَيُّب المتصارعين مع الهِدْأة والاطمئنان في نفسه، تحركت آلامُ قرحة معدته، وفي نهاية كل جولة كانت الغلبةُ لقليلٍ من التفاؤل. ألقى نظرة سريعة على من يشاركونه المركبة، فرآهم شاحبين وشواحِب، صامتين وصوامِت، يترقبون مثله القادمَ من الزمن بوجل. ليس بغريب هذا التحول المفاجىء للحياة في إيقاعاتها سواء أبطيئة كانت أم سريعة، فالجيش الحر يدخل القرى ويتحصن بين المدنيين، وقد وصلوا إلى جباتا الخشب، مسحرة، أم باطنة، العجرف، والنظام بدوره يقصف القرى والمدن بعماء، تتدمر القرى، تتراكم الجثث، يطرد أحدهم فلولَ الآخر، فيرفع أعلامه البراقة الرفرافة.
في الثلث الأخير من رحلته إلى خان أرنبة، شَغَلَتُه، وهو المعماري، فكرةَ الهدم والبناء، ألحت عليه العديد من الأسئلة، صحيح أن وراء كل فناء انبعاث جديد، لكن السؤال أيُّ بعثٍ سيكون؟! وهل ستؤخذ في الحسبان ذاكرة الأماكن المتصدِّعة؟
في خريف أيلول، وفي الأحراش الكثيفة لقريته والقرية المجاورة اختبأ جنود من الجيش الحر، بعد أن انسحبوا من قرية الرويحينة. وفي العالم السفلي للأحراش، وعلى الدوام كانت ترقد في سبات عميق أفعى عملاقة. لم يرها أحد من قبل، لكن أجيالًا شعروا بها، أحسوا بوجود ما هو هائل ومخيف يخطفُ العجولَ والخرفان بصمت شديد، ثم تظهر عظام فرائسها بالقرب من شجرة تين، فلم يقرب ذاك المكان أحدٌ من أهل القرية، وقالوا ما حاذى مسكن الأفعى طيرٌ إلا وسقط، وما مرَّ بالقرب منها حيوانٌ إلا وهلك. يصل طولها إلى سبعين قدمًا وعرضها إلى قدمين. وفي ليلة حالكة الظلمة، سقطت فوق مضجعها شجرة معمرة، قطعها المسلحون المختبئون ليستدفئوا بجمرها، ففتحت عينها المرعبة، التي بحجم قبضة يد.
كل أفاعي الجولان بناتها، تحيا وتتكاثر وتموت وتُبعث من جديد تحت ظلها، وهذه الأفعى الأم، الملعونة، أفعى قرين، تجول فصولًا في طول الأرض وعرضها تطارد قاتِلَها، وإن نال منها التعب والإنهاك، تلتف حول نفسها كقرص، وتأكل التراب.
نزل أحمد من الباص الذي بلغ وجهته الأخيرة، وخطى الخطو السريع نحو تجمع سائقي سيارات الأجرة، سمع أحدهم يناديه، فالتفت إليه، وجد غسان أحد معارفه مغادرًا قريتهما مع عائلته.
سأله الصديق باستغراب شديد وبجدية بالغة: مالذي جاء بك إلى هنا؟!
- أمر هام، ولولاه ما جئت
- والله الأفضل أن تعود أدراجك إلى دمشق فورًا
- إنها فرصتي، طالما حصل اتفاق وقَبِلَ الطرفان بإخراج من تبقى من الأهالي
- وأثناء الاتفاق قَنَصَ النظامُ الشاب سلام!
تبصَّر أحمد وتبيّن إزميلَ ومطرقة الحرب السحريين في نحت بؤس الوجوه، وخراب شرفاتها المطلّة على الموت، أوليست هذه هي الحرب؟ أن تصدّق ما لا يُصدَّق، أن تنهار كل الصروح التي شيَّدتها يومًا بيوم، كمسَلمات وقوانين وقِيّم، أن ترى نفسك التي انطوى فيها العالم مجرد غبار تافه، وأنك أنت لست أنت، وكل ما هو لك ليس لك، لا شيء هنا، سوى كابوس عابر يَلْفِظُه الكون.
سأل أحمد سائقي سيارات الأجرة، الجالسين على الرصيف ويتبادلون الأحاديث، الذهابَ إلى القرية، رفض الجميع قولًا واحدًا، إلا شابًا مكتنزًا ذا تقاسيم طفولية، وافق مقابل ألف ليرة سورية. والأجرة إلى هناك في العادة تبلغ نحو ثلاثمئة ليرة سورية، أما قبول الرجل الخمسيني، الوسيم الطلعة وحسن الهندام، ما لم يكن في حُسبان السائق.
صعد أحمد سيارة الأجرة، وانطلق به السائق على مضض، عبر طريق كودنة الفرعي الجنوبي، لا الطريق الرئيسي المحفوف بالمخاطر. عايَن بعينيه العسليتين نظافة السيارة وزينتها، ليتبيّن ملامحَ شخصية سائقها، فرأى بأنها مقبولة، ثم جال بهما في الفيافي والسهول المبرقعة بأحجار وأسوار البازلت البركانية. كل ما فوقها عدا الأحراج يتناثر بفوضى محببة للنفس، تلال فرادى، أشجار التين والبلوط والسنديان، النباتات البرية اللافتة والمتنوعة. قريتا بئرعجم وبريقة المتجاورتان تبدوان على مرتفعهما كراهبين يمارسان التأمل، أمام هذا الملأ الغارق في تصوفه، والذي يدعوك للظن بضرورة وجود دير هنا أو هناك، في حدوده الدنيا من الزهد والتقشف، وفوق مدخله كُتبت عبارة "كونوا ودعاء كالحمام وحكماء كالحيَّات". والحيَّات حارسات الأرض، حارسات المنازل والمقابر والمعابد، حاملات وحافظات أسرار الآلهة والأرض والعالم السفلي، يمجدن سيدة السماء وقدس الأقداس، يصلين غير لاهيات، يَرفعن الأدعية وآيات التبجيل للقريبة والبعيدة، للعقل والكلمة للصمت والصوت، يبتهلن لسيدة العدالة التي تمسك القدر بيديها *.
زفر أحمد هواء الجولان المنعش بقلق متواتر مع اقترابهما من بريقة، لاحت لهما المفرزة العسكرية، وما إن اقترب السائق منها حتى ظهر ثلاثة جنود يلوحون لهم بأيديهم في إشارة للعودة، لكن أحمد الذي تكبد مشقة المجيء والوصول إلى هذه النقطة لن يعود أدراجه بسهولة. تخوّف السائق، وطلب أحمد منه الصعود قليلًا، لكن تلويحات الجنود التي تصرُّ على مغادرتهما، جعلته يتوقف نهائيًا. أعطى أحمد السائق أجرته، وافترقا. سار على الشارع الإسفلتي، وَمَّأَ بِيَده نحو نفسه ثم الضيعة، فأشار أحدهم إلى الوعر، فالتقط أحمد المعنى، ابتعد عن الشارع، ومشى فوق التراب إلى أن دَنَا منهم.
- إني من هذه الضيعة
فأجاب شابٌ نحيلٌ أسمرُ البشرة وعظامُه بارزة:
- تابع سيرك على الدرب الترابي حتى لا يقنصوك.
كذلك الخوف ينتقل بالعدوى، وكل قرية دون سكانها مقبرة خرساء موحشة، كتلة من الحجارة الصَّماء في فضاء يراوغ، لا صوت هنا ولا حركة ولا نأمة، طقطقة الحشائش الجافة واليابسة تحت حذائه تلوثُ الصمت المهيب. شعر بنفسه مُرَاقبًا وهدفًا سهلًا، قفزت أمامه العبارة الأرسطية "لاتضعوا السلاح في يد طفل" فأربكته واستعجلت خطاه. وكلما طال به السير تعاظمت وساوسه، واستفحلت هواجسه، ثقب حارق في رئتيه يتقلص ويتمدد، ورعشة تسري في جسده، أهو البرد أم الفزع؟! أيُّ طرفٍ يمكنه أن يلهو بقنصه ليلصق التهمة بعنف الآخر، حياته التي يقدرها كأي إنسان عاقل، تساوي الآن مزاج شاب أرعن، "ما كان عليّ الخروج للقرية" أفضى لنفسه. ألم تحذره الأفعى الصفراء فجرًا؟!
أخيرًا، وصل إلى البيت غير المتباهي في عَمَارتِه، صعد الأدراج بسرعة، واتجه إلى مرآب السيارة، فتحه ودخل. رفع الغطاء عن سيارته التي يتجاوز ثمنها ثلاثين ألف دولار، مبلغ يقي من الجوع والبرد مع تراجع وتوقف الأعمال. عندما انتشرت الأقاويل بحصار دمشق القريب، والاستيلاء عليها من قبل فصائل المعارضة والجيش الحر، قام بعض الأهالي القاطنين في العاصمة وأطرافها، بتهيئة مساكنهم في القرية ونقل أغراضهم ومؤنهم إليها. كذلك فعل أحمد أسوة بهم، ومن بين الأغراض التي نقلها سيارته، إذ استعان عنها في دمشق بسيارة صغيرة الحجم تعود لابنته، التي سافرت إلى دبي للعمل. لكن ليس هذا بالتحديد ما جاء إليه أحمد وشغل باله، دخل المنزل، وفي غرفة النوم فتح باب الخزانة الخشبية المصنوعة من خشب الكرز الأحمر، وفي زاوية أحد دروجها الداخلية، كانت توجد حقيبة مخملية سوداء يدوية الصنع، في داخلها إيشارب قطني أبيض، مطرز حوافه بدانتيل رفيع، يلف بطبقات متعددة قرطين ذهبيين متدليين على شكل مثلث كبير، وفي داخله حُفرت ثلاث مثلثات صغيرة ترمز إلى العائلة الصغرى والكبرى، بالإضافة إلى خنجر شركسي أثري من الفضة الخالصة، وبعض الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، تعود هذه الأغراض القليلة إلى والديه الراحلين، وما كان ليتركها لأيٍ كان.
فُوجئ بقرع الباب، فتحه ورأى وجه جاره وصديقه منير، وما إن رآه الأخير حتى أبان عن أسنانه المصفرة من شدة التدخين.
- الناس تفرُّ من الموت، وأنت تأتيه بقدميك
- ادخل، لماذا لست بالملجأ؟
- عجقة يا أخي، ولا توجد حمامات، البرد قارص في الخارج، والله يَهرُّ عُضْو مُسنٍ مثلي أثناء التبوّل ههه
قطعت ضحكته أزيز رصاص مفاجىء وبعيد، فتجهَّم.
جلسا في غرفة الاستقبال الواسعة، أشعل منير سيجارة، عبَّ منها ثم نفث الدخان، وتأمل جمرها المحترق كمُنجِّم:
- الأحوال تستدعيني كثيرًا للتفكير في معاني الحياة، فمثلًا لو تم تصوير حياتك في شريط كل يوم، فهذا يعني وفي عمرك الحالي، أنَّ لديك ما يقارب عشرين ألف وأربعمئة وأربعين شريطًا، لكن المفارقة تكمن في أنك لو رغبت في دمج أجملها، أي تلك اللحظات التي تحتسبها من حياتك، في شريط واحد، كم ساعة أو من الدقائق ليستمر؟
ابتسم أحمد وأطرق برأسه موافقًا
- ورغم ذلك لو تعود تلك الأيام المملة الرتيبة، هل ترى ذلك ممكنًا؟
- علينا أن نعود كما كُنّا أولًا لنعيش كالسابق، نحن كالمدن يا صديقي نتهدم ويُصيب ذاكرتنا العَطَبُ... كيف هما ابناك؟
- الكبير لايزال في الجيش النظامي، والصغير انضم إلى الجيش الحر
أطفأ منير سيجارته من منتصفها، وأشعل أخرى:
- دعني أقول لك من الآخر إنّنا لسنا الإخوة الأعداء، بل نحن أعداء أنفسنا! كيف يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من فقدان العقل والبصيرة؟!
نهض أحمد، فتح النافذة قليلًا، وحدّق عبرها:
- كان لمدينة تدعى كورنثة طاغية اسمه بِرياندر، أرسل مرة إلى حليفه ثراسيبولس رسولًا، يسأله عن رأيه في حكم مدينته بطريقة أفضل وأكثر أمانًا، فكان أن أخذ ثراسيبولس الرسول إلى حقل، وراح يقتلع سنابل القمح الطويلة والبارزة ويرميها بعيدًا. وإننا على هذا الحال أكثر من أربعة عقود
صمت كلاهما للحظة، وكأنهما غرقا في لجة أفكارهما، حتى أضاف أحمد:
- ثم إن المال والسلطة يولدان الغطرسة والجنون إن لم يقترنا بالعلم والتربية السليمين
- بوجود هذه الفصائل والتنظيمات المسلحة كل الأطراف عندي سواء.. لا أرى قمحًا ولا شعيرًا
- قالوا بالنار نعرف النار، وبالحب ندرك الحب، وبالبغض الشديد ندرك البغض**، قِس على ذلك، المهم كيف سنخرج من هذا المستنقع؟
- ههه مبللين
نظر أحمد إلى ساعته المعلنة منتصف النهار، نهض منير:
- انتظرْ سنابل القمح خاصتك
ابتسم منير ابتسامة شاحبة، وطلب منه أن يصحب معه قريبه بيبرس وعائلته إلى دمشق، إذ إن حالته الصحية قد تدهورت على إثر إصابته برصاصة استقرت في كتفه، ومن طبيعة هذا الاستقرار الغريب، الإصابة بالشلل على حد قول الطبيب إن حاول نزع الرصاصة، سأله أحمد عن تفاصيل الحادثة وهما ينزلان الأدراج الخارجية للمنزل، صليل نار بعيد جمدهما لبرهة، ثم التفت منير إلى أحمد قبل أن يتجه مسرعًا إلى منزله:
- لتخرج الأفعى الصِل وتلدغ كل من يدمر قريتي، تبتسم ها، يتحدثون عن اختفاء شخصين في الأحراش، لقد رأيتها عندما كنت صغيرًا، رأيتها هناك في أعلى الحرش، لن تصدق حجمها، إنها هائلة
استعدَّ أحمد للعودة، وضع بعض الأغراض في صندوق السيارة، وقبل مغادرته رغب في تفقد أرضه المزروعة بأشجار الزيتون والرمان والسفرجل. ذهب خلف المنزل، وتجول قليلًا في بستانه الصغير، الذي يحتاج إلى قليل من التنظيف، والأشجار إلى التقليم، في الجهة الغربية منه، وقع نظره على ما لم تصدقه عيناه، اقترب بحذر حتى استوقفته حفرة كبيرة، يبلغ قطرها مسافة قدمين تقريبًا، جلس القرفصاء وتفحصَّها، هرع إلى المرأب وعاد بكشّاف، أشعله وحدَّق في الحفرة مدهوشًا مشدوهًا، ومحتارًا في الأمر.
- يالله أي جُحْرٍ هذا؟!
هوامش:
* بعضها عن نصوص عشتار
** عن أنبادوقليس
اقرأ/ي أيضًا: