صورة فوتوغرافية (شاب أبيض، نحيف، شعر أسود غزاه المشيب، شارب خفيف، ضاحك، أسنان مهشمة، لحية متناثرة).
كلاكيت: فيلم الأرض، مشهد الزحف فوق الحقول سابع مرة.
ربطوه بالحبال بعد أن مزقوا جلبابه الأبيض وسكبوا عليه بقايا زيت طعام أسود. دلقوا العديد من دلاء الماء فوق البلاط البارد، وقال المخرج: أكشن. سحب نادل المطعم والطبّاح والكاشير الحبل فجرّوا فتحي البسّ فوق الماء، وردّد في نفس الوقت عمال المطعم من الخلف: "الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا". الواقفون خلف المشهد يكتمون ضحكاتهم وهم يرون محمود المليجي مجرورًا ويمسح بلاط المطعم.
أمعن الساحبون في جرّه وتمزيق الأركان الهادئة بصرخاته المكتومة، التي بدأت تعلو، وراحوا يرطمونه بالكراسي المكومة على الجانبين، فكانت آلامه ترتطم بصرخاته وهم مأخوذون بحميتهم، حتى سمعوا صدى المطعم يردد كلمة المخرج: ستوب.
الأنفاس المتلاحقة وآثار الدماء التي ضمخت جلباب فتحي البسّ البيضاء جذبت انتباه المخرج، فقام سريعًا ولملم شتات محمود المليجي، وراح يربت على كتفيه صائحًا في عمال المطعم: يا حمير، هاتوا فوطة وشوية بيتادين. النادل الذي جرّ الحبل وأمعن في التعذيب، وضع القطنة المبللة بالبيتادين فوق جروح محمود المليجي، فتألّم، وقال: حاسب يا جحش.
-إنت نجحت يا فتحي وكدا هتدخل الامتحان التاني.
-امتحان إيه تاني يا أستاذ؟
-إنت هتمثل دور بروس لي.
-أنا من زمان كان نفسي أعمل دور بروس لي.
*
أخذوه بعد أن ضمّدوا جراحه إلى البيت محمولًا، ونبّه عليه المخرج قبل أن يغادر اللوكيشن أن يأكل ويتغذى حتى يستطيع القيام بالدور القادم بشكل صحيح، وحتى يصبح أول بطل سينمائي من الصعيد. ولم ينس أن يذكّره بأن محمد رمضان أسود ولكنه أصبح بطلًا تتهافت عليه شركات الإنتاج والحريم.
المسافة من بيته حتى شارع المنشية يقطعها فتحي البسّ يوميًا مشيًا على أقدامه في نصف ساعة، أما في ذلك اليوم الذي سيقوم فيه بدور بروس لي قطعها في عشر دقائق، وعندما حكى للمخرج عن سرعة وصوله، قال له: ده نشاط الأبطال يا فتحي.
منظر: مشهد خارجي. بيت من ثلاث طوابق في أحد الشوارع الجانبية. شرفة خلفية للبيت.
وقف فتحي البسّ فوق الشرفة متأهبًا للقفز، فلفحته رياح الأماني في تلك اللحظة: لو أن العيال الذين اعتادوا ضربه عند المطحن القديم في قريتهم، يرونه الآن وهو يؤدي دور البطولة فيفرغ من المشهد وينقض عليهم ويمسح بهم الأرض.
وقف المخرج وباقي طاقم العمل بعيدا كأنما يأخذون اللقطة من بعيد. الكاميرا الوهمية التي حملها المخرج بنفسه جعلت فتحي يتحمس للدور وكأنه يصوِّر فعلًا.
كلاكيت: بروس لي في المنشية أول مرة.
أكشن.
صرح المخرج حتى يسمعه فتحي فلا يتردد في القفز، لكن الارتفاع والظلام راحا يحفران في شجاعته، فمسّه الخوف الضرب الذي كان يتلقاه من زملائه الأغنياء والمطبوع على صفحات الماضي التي ترفرف في الهواء أمامه مباشرة، وتقتحم ذاكرته صفعات العيال له وهم يلعبون في ظلام المطحن المكدّس لعبة "الاستغماية". تردد واهتز وكاد أن يقع، فأمسك ببماسورة الستارة الخارجية للشرفة. صرخ المخرج: ستوب.
-ليه ما نطّتش يا فتحي؟
رفع يده المهتزة كعلامة على اعتذاره، فأشار المخرج بيده لأحد الواقفين بجواره، فتقدّم للأمام: كلاكيت: بروس لي في المنشية تاني مرة.
-أكشن.
لملم فتحي البسّ شتاته وشجاعته، وقفز صائحًا كأنه يصارع الهواء ويداه تقاتل الأشرار الوهميين الذين يراهم أمامه، وصاح صيحة الهجوم "ياااااع". تقلّب في الهواء حتى وقع، وارتطم ارتطامًا شديدًا برجل كان يجلس في الأسفل على ركبتيه يقضي حاجته في الخرابة، فصرخا معًا صرخة واحدة وتقلّبا فوق بقايا طعام عطنة ورماد أفران وما خرج من الرجل.
-ستوب.
أسرع المخرج وطاقمه يحاولون رفعه من بين ركام الخرابة، لكن قدميه لم تتحركا وصرخ صرخة فزعت القطط المتناثرة حول بقايا الطعام. حملوه عاريًا إلا مما يستره حتى المستشفى العام والموت يحوم فوق رأسه.
*
عندما وصل خبر تصوير إيناس الدغيدي لفيلمها الجديد عند شارع البحر إلى فتحي البسّ، قطع المسافة من بيته إلى كورنيش النيل ركضًا دون أن يستغرق دقيقة. حاول النفاذ من بين الجموع المحتشدة حول مكان التصوير، ولم يعرف أحد كيف وصل إلى اللوكيشن ووقف مع إيناس الدغيدي تحت المظلة، وتكلم معها، واندهش الواقفون عندما طلبت منه تأدية بعض الحركات أمامها، واندهشوا أكثر عندما قبلته ليعمل دوبليرًا للبطل.
-أكشن.
صاحت الدغيدي ودارت الكاميرا لتصوّر البطل -الذي أمضى عشرين عامًا من عمره دوبليرًا- وهو يركض على طول الكورنيش، لكنها أعادت المشهد أكثر من مرة، وصرخت في البطل بسبب سوء أداءه للدور، ثم غيّرت نبرتها الحادة وربتت عليه وهمست في أذنه، فضحكا، ثم أخذت تشرح له فهمها للدور حتى ينجح في تمثيله.
راح فتحي البسّ ينسخ حركات البطل وطريقته في المشي والركض، ونوى الذهاب هذه الليلة ليشتري الملابس نفسها التي يرتديها البطل من شارع السوق، ثم يركض ممتطيًا رياح الأمل حتى يصل إلى الميدان الكبير ومنه إلى المعبد الفرعوني لتشهد المدينة من أولها لآخرها المرة الأخيرة التي سيلعب فيها دور الدوبلير.
-أكشن.
ركض البطل سريعًا، وخلفه رجل شديد الضخامة يحاول اللحاق به في نفس الكادر، لكنهما توقفا عندما رفعت المخرجة صوتها من خلال الميكروفون: ستوب.
حاولت أن تنهر البطل بسبب أداءه الذي يتدهور يوما بعد يوم، لكنها ابتلعت حنقها وربتت عليه من جديد. أما فتحي البسّ فهزّ رأسه مبتسمًا.
أعادت تصوير المشهد خمس مرات حتى اقتنعت قليلًا بأداء البطل، وأكدت على طاقم العمل تصوير مشهد القفز في الماء غدًا في الفجر قبل شروق الشمس، وأشارت بإصبعها لفتحي البسّ أن يتواجد من الفجر لأنه هو الذي سيقوم بالقفز بدلًا من البطل.
*
كان الخيط الأبيض يمتص سواد الليل حينما وقفت المخرجة والبطل وطاقم العمل في انتظار فتحي البسّ. لكنه لم يأت. ثارت المخرجة وصرخت في مساعديها الذين وقفوا عاجزين عن الرد. الورطة التي وضعهم فيها الدوبلير جعلتهم فاقدين النطق، إلى أن أخرجهم البطل من دائرة الحيرة.
-أنا اللي هنطّ.
لم تجد المخرجة مفرًّا من القبول، وأشارت لهم ببدء التصوير قبل أن تشرق الشمس.
-أكشن.
تم تصوير جزء قليل من الركض ودارت الكاميرا المحمولة فوق سلم المطافئ لتصوّر قفزة البطل في الماء. قفز فارتطم جسده بصفحة الماء الذي ابتلعه مخلّفا لجّة هادرة اتسعت شيئًا فشيئًا. ثم صاحت المخرجة: ستوب.
صفّق الجميع بانتهاء التصوير في المدينة الصعيدية لكن أحد مساعدي البطل صاح معلنًا عدم خروج البطل من النيل. أسرعت المخرجة والطاقم عند الشاطئ، لكنهم لم يجدوا أثرًا للبطل، فقفز المتطوعون للبحث عنه في طيات النهر. ومرّ زمن حتى خرجوا حاملين جثتين يتقاطر منهما الماء. الجثتان تفصلهما خطوة واحدة. أسرعت المخرجة إلى جثة البطل تحاول إفاقته، وحاول بعض أفراد الطاقم عمل تمرينات الإفاقة والتنفس، لكن الجسد البارد لم يستجب.
أشعة الشمس تطلع على استحياء وتنظر إلى الشاطئ الشرقي للنهر. الحزن يعمّ المكان. غطوا الجثة بورق الكرتون، وهمّوا بمغادرة المكان حتى تأتي الشرطة والنيابة لمعاينة الجثة. وعندما استدارت المخرجة لتأخذ طريقها معهم، تعثّرت قدمها بالجثة الأخرى، ففزعت وصرخت حين لاحظت انتفاخها قليلًا، لكنها عرفتها على الفور.
اقرأ/ي أيضًا: