لا يبدو مفهوم الرحلة في أفلام المخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي مفهومًا عاديًا يعني الانتقال أو الوصول من أو إلى مكان ما، فهو إلى جانب هذا يبدو مفهومًا أصيلًا جليًّا في الحكايات التي تُبنى عليها الأفلام.
لا يبدو مفهوم الرحلة في أفلام المخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي مفهومًا عاديًا يعني الانتقال أو الوصول من أو إلى مكان ما
سنحاول الوقوف عند معنى الرحلة وما تعنيه من تغير وتحول أو استمرار. وينطبق هذا على ما يمكن أن نقول عنه ثلاثية الشمال الإيراني، أو ثلاثية كوكر كما أطلق عليها النقاد لاحقًا. وهي الأفلام التالية "أين منزل الصديق"، "تستمر الحياة"، "عبر أشجار الزيتون".
منطقة كوكر تقع شمال طهران، صور فيها كيارستمي فيلمه الشهير "أين منزل الصديق" 1987، وعاد إليها بعد سنوات ليرصد أثار زلزال كبير وقع في المنطقة وتسبب بموت العشرات من أهلها.
في الفيلم الأول نتابع محاولة الطفل "أحمد بور" إيجاد منزل صديقه "نعمت زاده" حتى يعيد له دفتره المدرسي كي لايعاقبه الأستاذ في اليوم التالي.
أمّا الفيلم الثاني "تستمر الحياة" 1992 فهو عودة فرهاد الذي لعب دور مخرج فيلم أين منزل الصديق ليبحث عن بطل فيلمه، الطفل أحمد بعد أيام من الزلزال الذي ضرب المنطقة، تلك الحكاية التي نرى فيها أحوال أهل المكان بعد أن انقلبت فيهم الأرض.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الأصليين".. هل تصنع السخافة فيلمًا؟
وثالثًا بفيلمه "عبر أشجار الزيتون" 1994 حيث وجه كيارستمي عدسته إلى المنطقة نفسها بعد عامين ليقتفي أثر أبطاله الشباب ويرصد الأثار البعيدة للكارثة من وجهة نظرٍ أخرى، ومن خلال تتبعه لقصة حب الشاب حسين للفتاة طاهرة التي مات والديها في الزلزال وبقيت بعهدة جدتها، وقد رفضت الأخيرة تزويجها له لأنه أميّ ولايملك بيتًا، أمّا طاهرة فطالبة في الثالث الثانوي، ولربما كانت هذه إحدى فوارق الزلزال.
من المعالم الأساسية للحكايات الثلاثة مجتمعةً هي طريق متعرج يصل إلى قمة التل، فهي اللقطة المقربة بل الأقرب لخيال كيارستمي وقلبه. جلجلة أبطاله صعودًا وهبوطًا يجرون معهم شغف البحث وحب الحياة، لم ينقطع الطريق بين كوكر والقرية القريبة منها بوشتيّة حتى بعد الزلزال، فقد استطاع فرهاد المخرج في "تستمر الحياة" أن يعبر الطريق القاسي بتشققات الأرض الطازجة باحثًا عن أحمد بور الذي بحث عن الصديق مرةً وجاء اليوم من يبحث عنه.
تبدو وسيلة النقل المستخدمة في الأفلام إحدى أوجه المعنى في الرحلة، ففي الأول يمشي أحمد بور على قدميه يركض ويهرول بحثًا عن بيت الصديق، يسرع الخطى ويضطرب خوفًا من التأخر في العودة إلى البيت. أمّا في فيلم "تستمر الحياة" فسيارة المخرج القديمة تفي بالغرض، رغم تعطلها أحيانًا خلال الصعود أو الهبوط فهي وسيلة ناجعة للتنقل في المكان المتعب أصلًا، كما وتعكس حالة السيارة القديمة وتعبها واستمرارها، رحلة المخرج إلى تلك المنطقة الجبلية المنكوبة لمعاينة الأمر عن قرب والاطمئنان.
أمّا في الفيلم الثالث فتبدو السيارة الكبيرة وسيلة نقل الأبطال وكادر تصوير الفيلم كله، يمكن أن تتسع للشخصيات كلها، هي بحد ذاتها الفيلم عينه، كما أنها تمثل عالم القرية بعد سنوات من الزلزال وبعد أن كبر من كان صغيرًا وصار جزءًا من عوالم القرية وعالم الفيلم، وجزءًا من تكوين المكان وأبعاده.
منطقة كوكر شمال طهران، صور فيها كيارستمي فيلمه الشهير "أين منزل الصديق"، وعاد إليها بعد سنوات ليرصد أثار زلزال وقع في المنطقة
تنعدم الفواصل بين الواقع والفن في الثلاثية أو تكون في أغلب الأحيان بغاية الشفافية، في نسختها الأولى نتماهى مع رحلة بحث الطفل عن صديقه، كما ويتجلى سحر ذلك الواقع من خلال شخصيات كالأم والجدة والجد والرجل العجوز الذي يحاول مساعدة الطفل بإرشاده إلى طريق منزل صديقه.
العالم نفسه يظهر في فيلم "تستمر الحياة" الرجل العجوز ذاته منكوبًا ولكنه أكثر تفاؤلًا وإصرارًا على الحياة من قبل، حيث تصدح منه عبارة "أن تستمر في الحياة هو أحد أنواع الفنون."
إلى جانب وجود المخرج والذي ينقل بانتقاله وتجواله المشاهد ويرتبها على مقاس الحكاية. تلك المشاهد التي من الممكن أن نسميها ديكور الفيلم البريئ، هذا الديكور نفسه ينتقل ليصبح عالمًا رحبًا للشخصيات وأبطال فيلم "عبر أشجار الزيتون"، حيث شرفة البيت وأحواض النباتات المستعارة من الجيران، فقد شاركت القرية وأهلها ببناء الفيلم، كلها تشكل سويّةً البعد الدرامي للأحداث الواقعية.
اقرأ/ي أيضًا: "18 يوم".. فيلم متواضع أشعل في نفوس المصريين ذكرى الثورة والميدان
أمّا بالنسبة لعتبة وصول الشخصيات إلى هدفها، فلا يصل أبطال الرحلة في النسخ الثلاث إلى أهدافهم، أو ربما يصبح ذلك الهدف مفصلًا أساسيًا لتحقيق التحول على المستوى الشخصي، فأحمد بور لم يجد منزل صديقه رغم بحثه الطويل حتى حلول الظلام، والمخرج فرهاد لم يتعرف على أحمد بور، لنبقى مع مشهد صعود السيارة المتعبة إلى أعلى التل، كما وأن الشاب حسين لم يحصل على جواب من الفتاة طاهرة فصمتها الطويل جعل منه تابعًا لها بين أشجار الزيتون مستمرًا في روي الحجج دون جواب يذكر.
إلاّ أن رحلة الثلاثة أطلت على تفاصيل مؤثرة تغير في واقعهم، يعود الطفل أحمد إلى البيت ليلًا، يكتب واجبه وواجب صديقه المدرسي، ويكمل فرهاد الرحلة بعد أن تأكد من أن الحياة ستستمر في كوكر، وتابع حسين ملاحقة طاهرة.
خلال إصراره على الوصول إلى كوكر، يلتقي فرهاد بشاب من أهل المكان، يركب كبل التلفاز الهوائي، حيث يتجمهر من بقي من أهل المكان بانتظاره لمتابعة مباراة الأرجنتين والبرازيل في ترقبهم لكأس العالم وقتها، كل شيء سيستمر.
ثلاثية كوكر كما أطلق عليها النقاد، هي أفلام كيارستمي التالية "أين منزل الصديق"، "تستمر الحياة"، "عبر أشجار الزيتون".
لتكون مشاهد هذا الفيلم جذرًا للفيلم الذي تلاه "عبر أشجار زيتون"، ومادةً غنية تفسح المجال لمرة واحدة ووحيدة للقاء الشاب حسين بالفتاة طاهرة في موقع التصوير، حيث ما يرفضه الواقع يقبله الفن، فيجلسان على الشرفة خلال انشغال الأخرين بالتحضير للتصوير، ويلقي عليها لأول مرة وسط الموانع الكثيرة التي تقولها جدتها ويردد مايمكن أن يحدث لو تزوجا.
البحث والتحول بعد مواجهة بعض المخاطر والمعوقات هي أحد نتائج الرحلة التي تعيشها الأبطال. في ثلاثية لم تنته حتى الآن، فبعد أن كتب أحمد واجب صديقه لا نعرف إذا كان قد عرف بيته جيدًا، أمّا سيارة فرهاد فأكملت طريقها باحثةً عن البطل، وظل حسين يلاحق طاهرة للظفر بجوابٍ يشفي قلبه. يتعرف الأبطال على العالم من جديد ويطلّون عليه من عين أخرى لم تكن ترى العوالم أمامها قبل تلك الرحلة، فتكتشف واقعها ومكانها وتحاول أن تقول فيه شيء ما.
اقرأ/ي أيضًا:
كل شيء مُتوقع في فيلم "جواب اعتقال"
"تاكسي طهران" والبحث عن الخلطة السحرية لنجاح السينما الإيرانية