إنه نهار الواحد والعشرون من أيار/مايو لعام 2021.
أسعدتِ صباحًا وأوقاتًا، وأرجو أن تكوني مثلي فرحة مسرورة بما أسفر عنه وجه الحرب الكالح. أما بعد:
لقد فاتني شرف انتظار اللحظة الحاسمة، فَرُحت في سبات عميق. ضرب على أذنيّ فلم أصحُ على وقع الرصاص الذي انطلق احتفالًا بانتهاء الحرب على غزة بالشكل الذي انتهت إليه. الناس في غزة لم تنم واحتفلت، وفي رام الله، هتافات وسعادة وبهجة، إنها صورة أخرى من المقاومة الشعبية التي لم تخفت. لن يفهم المشهد إلا من صنعوه بعفوية، غزة قبل ساعات قليلة بل ربما قبل ساعة كانت تحت القصف والشهداء بالعشرات والجرحى والهدم والدمار، وبعد كل ذلك، ينهض الشعب الذي لم يهنأ بليلة واحدة على مدى أحد عشر يومًا ليحتفل. إن الشعب غير منهك، غير مهزوم، لا يشعر بالعار أو بالذل. على العكس من مدن محتلة، فعسقلان نعمت بليلة هادئة، فانسلّ السكان إلى غرف نومهم هادئين، "وبضدها تتميز الأشياء".
إنه لأمر عظيم ما جرى، وإن لم يكن كبيرًا في المفاهيم السياسية، فظلت غزة محاصرة، وظلت فلسطين كل فلسطين محتلة، وظل بايدن يدعم إسرائيل، وظل المجتمع الدولي منحازًا متواطئًا، لكن الدرس الأهم من كل ذلك هو أن الحرب أعادت اللحمة للشعب كل الشعب من أقصاه إلى أقصاه.
أمس، كنت في حوار مع صديقة، تشعر بالخجل، لا تريد أن تكتب في الحرب، إنها تشعر بالعجز. هكذا بدت وكأنه لا شيء لديها لتقوله. بدوري أنا أحب الحرب، ولا حرب بلا ضحايا وآلام، بل كلها آلام خلال الحرب وبعدها، ولكن لا بد من أن نخوض المعارك. الحرب تشعرني بأني حيّ، حالة الهدوء القاتل حالة تشير إلى الالتباس، حالة اللاسلم واللاحرب.
الحرب كاشفة وفاضحة يا عزيزتي، في الحرب طلّقت قناة "العربية"، إنها سيئة بما يكفي لتبصق في وجوه القائمين عليها، بدت منحازة بشكل فاضح للإسرائيليين، وتحرضهم علينا، وتتمنى لنا الهزيمة والانكسار. صحيفة العرب التي تصدر في لندن يبثّ بعض كتابها سمومهم في تحليل مواقف المقاومة. إنه لا يرى المقاومة أكثر من مرتزقة تخدم لصالح إيران. هذا الكاتب (ولا أريد ذكر اسمه ترفعًا لأنه لا يستحق) يبول على نفسه برذائل قوله، ثمة آخرون مثل "العرب" و"العربية" وهذا النكرة، لا شك في أن ما آلات إليه الأحداث سيزعجهم، وسيلطخون اللغة بغرائب تحليلاتهم، وإشاعاتهم الباطلة التي كانت تروج للهزيمة وقبول شروط مجحفة عبر ما ادعوا من امتلاكهم لوثائق مسرّبة. ثبت أنها لم تكن موجودة.
إنني أشبهكِ تمامًا في أنني لا أعوّل على أمثال هؤلاء، والحرب بطبيعتها توجد "مرجفين في المدينة"، ومنافقين، وتقسم الناس أقسامًا متنوعة، ولكل هدف ولكل غاية، وهم أحرار فيما اتخذوه من مواقف، وإننا أيضًا أحرار في اتخاذنا المواقف التي تناسبنا ونحبّ من يحبنا ويقف إلى جانبنا.
ليس بعيدًا عن الحرب، أودّ أن أبلغك أن مقالتي "المثقفون الفلسطينيون والحالة الراهنة" قد حازت نسبة قراءة عالية، والتفت إليها كثيرون. يهاتفني أحدهم على إثرها وبعد أن وشى بي "شخص" ما، لم يذكر اسمه وأنا لم أطلب اسمه. المقالة موجعة للمثقف الفلسطيني الذي أصبح بالفعل "مثقف سلطة" ولا حول له ولا قوة، وأقصى ما يستطيعه الخروج بمظاهرات سلمية، والكتابة على الفيسبوك. ربما تقولين إنك لا تفعل غير هذا. نعم معك حق، فأنا لا أفعل غير هذا، ولكنني لست مع أي سلطة كانت. فلا أمدح أحدًا ولا أهجو كذلك. أنتقد وبشدة وبموضوعية. كيف لي أن أرى احتفالًا رسميًا في رام الله في ذكرى النكبة يطيّر بلالين في الهواء ولا أسخر، بلالين في رام الله، وصواريخ في غزة في ذكرى النكبة التي وحدت الشعب كل الشعب، أي تناقض سخيف في عقد المقارنة أساسًا. إنه مشهد مذل ومخزٍ بالفعل أشعرني بالقرف. الدرس الذي تعلمته من هذه المفارقة الحادة كيف أن "السلطة" تدخلنا في جحور واطئة السقف، والمقاومة تجعل سقف طموحاتنا السماء المفتوحة على المطلق. المقاومة تدفع بنا إلى الأعلى والسلطة تجبرنا على الدخول في النفق المظلم ورؤوسنا منحنية. هذا هو الفرق بين المقاومة وبين السلطة، وعلى المثقف أن يختار في أي صف يكون.
رام الله اليوم في الواحد والعشرين من أيار/مايو العظيم تلغي المشهد بسخافته لتكون صدى غزة وأم الفحم واللد، إنه مشهد تجريبي ليوم التحرير القادم شاء من شاء وآبى من أبى "واللي مش عاجبة يشرب من بحر غزة" أو يغرق فيه. لا ضير، "بريّحنا" من شره.
اليوم هو العيد، بعد أن تأخر العيد، فغزة في اليوم الثاني عشر ينبلج فيها قمر العيد الكبير، فلتحتفلي معي، بما يليق بهذه الفرحة العارمة، فيا ليتك كنت معي الآن، لكنا في التحام الاشتياق الذي يرفع نسبة الشوق إلى أقصاه لنتحد في مشهد العشق على وقع دقات الفرح الكبير، فلا أجمل من حبيبين يحتفلان بالنصر على طريقتهما الخاصة. لا أريد أن أكتب شعرًا للنصر، وإنما أريد أن أكتب في أحشائك أجمل لحظات الشوق والاشتياق وأرى وجهك مشرقًا متهللًا ونحن في أجمل حال وألطف مشهد بعد الحرب، فنحن نحب الحياة أيضًا ما استطعنا إليها سبيلًا.
أراك بخير أيتها الرائعة، وعلى أمل قريب في موعد قريب لعلنا نحتفل كما ينبغي لعاشقين افترقا، وها هما يدخلان الشهر الرابع وهما في تنافر وقطيعة. ألم يكن بمقدور غزة أن تصالحنا. يبدو أن الأمر بالنسبة إليك أكبر من غزة ورام الله وفلسطين. على العموم أتمنى لك الخير وراحة البال.
المشتاق إليك.
اقرأ/ي أيضًا: