في أقصى شارع العربي بن مهيدي تقع السينماتك الوحيدة في العاصمة الجزائرية، الطقس كان شتائيًا ورماديًا، وكانت مناسبة جميلة فقد قررت مع بعض الأصدقاء أن نتسلل في هذا الجو البارد إلى قاعة السينما. كراسي القاعة الحمراء كانت نصف فارغة فالفيلم المعروض اليوم لا يلفت رغبة الجمهور العاطفي، ولا العشاق ولا المراهقين والمراهقات.
يقوم الصراع في فيلم "السعداء" على عدم التوافق بين زوجين جزائريين على خياراتهما الحياتية والمستقبلية
على مدار ساعة وأربعين دقيقة، تدور أحداث فيلم "السعداء" للمخرجة صوفيا جاما في جغرافيا محددة من مدينة الجزائر العاصمة. في البداية لم أكن قادرًا على استيعاب إشكالية الفيلم أو تحديد حبكته، لكن شريط الأحداث يرفع الستار عن ضبابية المضمون الفيلمي.
اقرأ/ي أيضًا: أجزاء ناقصة من صورة الاستقلال الجزائري
تدور مجريات الفيلم بين شخصيات متعددة ومتنوعة، لا يغلب الطابع البطولي على أيّ من الممثلين، ما عدا الحضور القوي تمثيلًا لنادية قاسي في شخصية آمال.
تركز الكاميرا في بداية المشهد على مداخل المدينة، صور عن بناية المسجد الأعظم والحواجز الأمنية المنتشرة عبر محاور العاصمة، وصور مقابر عليها شواهد لموتى لسنوات التسعينيات. إيحاءات تعكس مضمون الفيلم في رسم التحولات ما بعد مرحلة الحرب الأهلية، والحوار الدائر بين آمال وزوجها سمير (سامي بوعجيلة) يضع الإطار الزمني؛ أننا في مرحلة ما قبل العهدة الثالثة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
يحتل المشهد السينمائي الصراع والسجل بين الزوجين سمير وآمال في عدم التوافق على خيارات حياتية ومستقبلية، تصنع البرودة والتوتر في علاقتهما الزوجية، يولّد هذا الصراع ضغوطًا مسكوتًا عنها بين الطرفين، جمع الحب بينهما في زمن الحرب، وأصابهما القنوط في زمن اليأس السياسي.
آمال تصر على قرار العودة إلى فرنسا، وترتيب مستقبل أحسن وأفضل لابنهما الوحيد، على النقيض من ذلك يقرر سمير البقاء في الوطن والعمل على تحقيق مشروعه الطبي في إنشاء عيادة صحية، ينعكس هذا الصراع على إهمال الابن فهيم الذي يرفض اقتراح الوالدة، ويسلك سلوكًا شارعيًا عبر تعاطي الحشيش والصحبة والمرافقة السيئة.
تحتل هذه الجزئية الحلقة الأهم في الفيلم كي تتفرع عنها مجموعة من الأفكار والمواضيع والثيمات، أرادت صوفيا جاما (المخرجة والكاتبة) ترجمتها سينمائيًا، كي تعكس صورة واقعية لما يجري داخل المجتمع.
في السياق نفسه، أرادت جاما رسم التحولات المجتمعية ما بعد الحرب الدامية عبر انتقاء نماذج مجتمعية، فشخصية فريال كواحدة من تلك العينات اغتيلت والدتها زمن التسعينات وهي صغيرة، لتجد نفسها وحيدة دون رعاية أسرية وضحية للمجتمع الذكوري والشارع والوالد، الذي يستسلم لليأس والكآبة حزنًا على زوجته المغتالة.
الشاب رضا يبحث عن مخرج لأزمة الهوية والمراهقاتية في ارتداء ثوب التدين الصوفي. مزيج بين الشعوذة والخرافة حيث يتعاطى الحشيش ويستمتع بالإنصات إلى تلاوة عبد الباسط عبد الصمد، ويبحث عن وضع رسم وشم من سورة الإخلاص على جسده كإلهام صوفي.
تفاعلت المخرجة مع التدين الشعبوي عبر رسم تناقضات وانفصامات لدى فئة الشباب المنحرف الذي يتعاطى المخدرات والمشروبات الكحولية، فيما يتحفظ ويرفض بخلفية دينية على رسم وشم قرآني على جسد رضا. تلك صورة تترجم حضور الدين في الوعي الشبابي في شكله المتطرف والمتناقض بين السلوك والفكرة.
في فيلم "السعداء"، تسعى المخرجة صوفيا جاما إلى رسم التحولات المجتمعية الجزائرية، في ما بعد الحرب الدامية
يحمل الفيلم صورة جمالية عن المدينة الكولونيالية، لكن الانقطاع شبه المستمر للكهرباء، وسلوكيات قاطنيها من العسة والرقابة المجتمعية وغياب فضاءات الحرية، مثل منع المشروبات الكحولية على المرأة على كونتوار البار مثلًا تترك انطباعًا أنها مدينة مغلقة وضيقة وقبيحة رغم جمال الفضاء العاصمي.
اقرأ/ي أيضًا: هل أساء فيلم أحمد راشدي الجديد للثّورة الجزائرية؟
الإخراج الفني والتقني كان رائعًا، والمشاهد والإخراج مقبولة واللغة الشارعية المستخدمة لا يمكن التحفظ عليها، حيث عكست تلك اللغة البيئة المجتمعية ولسان حال الأجيال الجديدة، لكن الحضور القوي للغة الفرنسية يعطي شرعية نسبية لمن يسأل: من هو جمهور الفيلم؟ وحتى النمط الحياتي الأوروبي المرسوم في الفيلم لبعض الشخصيات فيه مبالغة في تجسد صورة حقيقية عن الزوج الجزائري حتى الأكثر تحررًا وتنورًا، بينما كانت الحوارات في أغلبها ثقيلة وباردة ومنقطعة وصامتة، وبعض التفاصيل تركت فجوات في التناسق السيناريو. حاول الفيلم ترجمة مجموعة من الأفكار والكليشيهات التي رسمتها المخرجة جاما عن المجتمع، وقد وفقت في البعض منها وأخطأت في تجسيد البعض الآخر أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: